آخر تحديث: 21 / 12 / 2024م - 3:02 م

الكابتن عيسى الجيراني هداف خارج المرمى

عبد العظيم شلي

ثمة نفوس تتصف بالروح الإيجابية والمرح، لا تعرف للسلبية محلا، متفائلة، فرحة، بملامح مبتسمة، وحسنه الظن بالناس وبإحساس مطرد سعيدة «باللّمة» الكروية الجماعية.

توصيفات تمثلت في شخصية الحاج عيسى الجيراني الذي رحل عن دنيانا قبل بضعة أيام.

منذ عهد صباه جذبته كرة القدم وعالمها الساحر، وحين اشتد عوده لعب مع نادي النور بالربيعية 1970 ضمن درجة «B»، وبعد عام سجل نادي هلال سنابس رسميا ليأخذ المسمى ويقال حتى اللوحة ليعلقها على بوابة مقره مقابل مبلغ من المال فقط مسحت كلمة بالربيعية واستبدلت بسانبس، عند ذلك تحول نور الربيعية لنادي الربيع ومقره على الشارع العام، لعب ضمن دورة كأس الشؤون الاجتماعية لفرق حواري القطيف صيف 1971 وخسر النهائي أمام نادي فريق النسر بتاروت بنتيجة واحد صفر جرت المباراة على أرضه مكان عرف بملعب نادي الخليج بتاروت الكائن جنوب شرق الربيعية بمحاذاة البحر.

شيئا فشيئا بدأ الضعف يدب في جسد الربيع وأصيب بحالة من الوهن ثم سقط كورقة خريفية. في حدود منتصف السبعينيات نشأت ثلاث فرق في الربيعية، فريق الوسط وفريق الشرق، وكل فريق يتبع لتقسيمات جغرافية المكان، أما الفريق الثالث فقام بتأسيسه اللاعب عيسى الجيراني وأطلق عليه اسم «الهدف»، شرع في بسط أرضية زراعية بالقرب من تلال أثرية، لإقامة ملعب مصغر غرب الربيعية، يخططه ب «النورة» وحده في عز الظهر، قبل وصول الفريق الضيف.

وعلى أثر التوسع العمراني تنقل ثلاث مرات لإقامة ملعب تلو الآخر، فترة جنوب الربيعية وردحا من الزمن في شمالها وحين ضاقت عليه السبل عاد مرة رابعة لمكانه الأول.

يسارع عيسى الخطى من تكسي إلى تكسي لشراء اللوازم الرياضية، يتأبط رزمة قمصان وكرات جديدة، من محلات الرياضة في شارع الظهران بالدمام، مشاوير مضنية ومكلفة والمسافة تطول، بذل بلا حد من أجل استقطاب شباب الربيعية لينضموا لفريقه الناشئ، كبر واتسعت قاعدته، ومع مرور السنين أصبح ضمن أشهر فرق حواري القطيف، والشهرة لم تأت من فراغ بل من روح الفريق المتجسدة لعقود طويلة في شخصية عيسى الجيراني فهو العقل المدبر، الداعم والآمر والناهي، الصابر والمثابر، ما تخلى عن فريقه يوما رغم حالات المد والجزر من شح المال وأمزجة اللاعبين المتقلبة وعبر اشتراكات متواضعة، كم من فرق برزت لبضعة سنين ثم اختفت كحال فريقي الوسط والشرق وغيرهما، نظرا إلى أسباب عديدة، وأبرزها فقدها لروح القائد، أما فريق الهدف لماذا استمر طوال 50 عاماً، ولم يزل، لأن وراءه الكابتن عيسى ذو البأس الشديد وصاحب النفس الطويل والمنطق الجاذب باحتواء الشباب عبر الكلمة الطيبة ”تعال العب والفريق فريقك، حتى لو ماعندك اشتراك مايهمك بس تعال ويانا ومايصير الا خاطرك طيب“. أسلوب حسن لجذب أكبر قدر ممكن من الأعضاء لتقوية فريقه. يصرف باستمرار من جيبه الخاص على الرغم من وضعه المادي المحدود، لأن الفريق متجسد في شخصه، ظله، حياته، ما أن يذكر اسم فريق الهدف أو ملعب الهدف إلا، وترتسم شخصية الرجل في مخيلة الشارع الرياضي المحلي.

مكانة عيسى لم تكن محصورة داخل وحدة فريقه والمحافظة عليه بل بث روح الحماس في الفرق الأخرى بخلق منافسات مستمرة، مباريات طوال العام، وفي أي وقت، وتحت أي طقس، هذه الأجواء مع تجاوب لاعبوا ورؤساء فرق الحواري، جعلت من عيسى محبوبا من الجميع، فأخذ يشكل معهم فرقا متداخلة من عدة مناطق، لاعب يلعب ضمن صفوف فريقه اليوم تلقاه غدا ضده، روح المنافسة الودية أراد لها عيسى بعقل متفتح، لايهم أنت من أي منطقة المهم أن تلعب مع هذا أو ذاك، جعل من اللاعبين يتعالون على التحيزات المناطقية بل سعى لتذويب الحساسيات المفتعلة، حتى تظن بأن لاعبي فرق الحواري كلهم عائلة واحدة وتحسبهم إخوة بأسماء متعددة، يلعبون مع بعضهم، تكسب تخسر لا يهم فالكل ربحان، همهم الوحيد اللقاءات الودية والمتعة الكروية.

تجمعات عبر تاريخ طويل وقف وراؤها كثيرون وعلى رأسهم عيسى الجيراني الذي جعل من كرة القدم الشعبية أواصر صداقة ومحبة، تجمع ولا تفرق، تقرب ولا تبعد، وعلى الرغم من بريق الأندية الرسمية وامتيازاتها إلا أن فرق الحواري عند متناول الجميع لعب مفتوح بعيدا عن أسوار الالتزام والتقيد والتمارين المكثفة والانضباط.

تآزرهم قاعدة جماهيرية مفتونة بمشاهدة لعب فرق الحواري تقف بحماس على حدود التماس، مشكلة حدود الملعب، تهتف باسم هذا وذاك والعيون تقول هذا لاعب فنان أبرزته فرق الحواري وله مستقبل واعد ضمن أي ناد رسمي سيظفر به.

الكابتن عيسى الجيراني شجّع، واكتشف الكثير من المواهب، ودفعهم للانخراط ضمن الأندية الرسمية، جعل من فريقه ممولا لأندية جزيرة تاروت، النور والهدى والجزيرة وأغلب أندية القطيف، وأيضا لم يكن هدفه فقط محصورا في مساحة منطقته دون أخرى بل نظرته كانت شاملة تجاوزت حدود المنطقة الشرقية.

وحسب المعلق الرياضي زهير الضامن الذي أدلى بشهادته عن هذه الشخصية النادرة " ابرز مايميز هذا الرجل الذي نذر حياته لأكثر من 45 سنة في خدمة الشباب، من الأشياء الجميلة في الحياة، العمل التطوعي، عيسى الجيراني وضع ذلك نصب عينيه، فراح يرتب أغلب مباريات الحواري في المنطقة الشرقية، من الدمام إلى رأس تنورة، هذا المدى من التواصل لم يأت من فراغ، هذا عائد لعلاقاته الواسعة المبنية على الثقة والاحترام فكان محبوبا ومقربا من الجميع، وعبر مجلسه العامر بالشباب وبمختلف الأعمار تأتيه الاتصالات على نحو متواصل، يرد على هذا، ويجيب ذاك، ويعدهم لترتيب المباريات في الزمان والمكان، لا يرد طلبا لأحد كالأب العطوف والأخ الودود يكسب رضا الكل، لدرجة أنه ينسق، ويرتب خلال الإجازة الأسبوعية - خميس وجمعة - لأكثر من 30 أو 35 وأحيانا 40 مباراة في اليوم الواحد!

هذا جهد خارق امتاز به هذا الإنسان الخلوق، الذي حظي بثقة كبيرة عند الصغير والكبير وبإخلاص وتفان.

وأقول بالفم المليان يا لها من خدمة تطوعية عالية لأن كل هذه الخدمة بالمجان ما كان يبحث عن منصب أو مال، إنسان كبير بكل ما تحمله الكلمة من معنى، كسب احترام ومحبة وتقدير الناس، رحمه الله رحمة واسعة واسكنه الفسيح من جناته ".

الكل يجمع على احتضانه للشباب ومحبته الواسعة لهم وتفانيه في خدمة الرياضيين بمختلف مناطقهم فالكل عنده سواء إن كنت سعوديا أو عربيا، كم تجلت المشاعر أثناء تشييعه، ماذا يعني أن يرثيه رجل من مصر الحبيبة وأن يبكيه ابن الغربية فضلا عن أبناء المنطقة عبر مشاعر جياشة موثقة عبر فيديو من إعداد وإخراج سعيد وحسن الجيراني تحت عنوان «في وداع شيخ الرياضيين عيسى الجيراني»، يتلمس المشاهد كمية الحزن ودفق الشهادات المؤثرة الباكية عند محبيه، وأي الكلمات تلملم حالة الفقد، وتواسي الأنفس الموكولة، لتكفكف الدمع بطرق السمع عبر كلمة الشيخ الجليل الخطيب محمد ابو زيد أثناء مجلس الفاتحة: ”كان للمرحوم عيسى الجيراني أبو علي دورا كبيرا في خدمة المجتمع تمثل في المحافظة على جيل كبير من الشباب، عمل معهم كحاضنة من التشتت والضياع في منزلقات الحياة، لعب المرحوم عيسى الجيراني دورا كبيرا في لمهم وإشراكهم بالعديد من البرامج والأنشطة الرياضية داخل المحافظة وخارجها، نسأل الله أن يكتب ذلك في ميزان أعماله وأن يتقبل منه ذلك العمل الخالص لوجه الله“.

الحاج عيسى الجيراني روح سمحة بذلت بسخاء، وقدمت خدمات مجتمعية على مدى خمسة عقود دون كلل أو ملل، كم سجل أهدافا خارج المرمى، لقد شاهدها وحسبها واحسها الكثيرون.

يا أبا علي في أوآخر عمرك الذي ناهز 65 عاما حاصرك المرض، وأتعبتك الهموم، وأردت متنفسا لينجلي عنك الغمام، غمام حالك، سد ضوء الشمس في وجهك هو من غيب ابتسامتك!

هل صحيح انفض عنك المحبون؟ كم كنت تأمل من الأيد الطولى أن تعمل ما بوسعها لتدرأ عنك الضر!، هل نبذتك الأيام بالعراء وأنت سقيم؟

صورة متباينة حين كنت فارسا لا يشق له غبار، وبين نوازل الزمان، أصحيح أتعبك العدو وحانت ساعة الرحيل، أثناء تشييعك وجوه تقاطرت من كل الجهات والأمكنة يعزون بعضهم هم رفاق الدرب والصحبة الجميلة، وفي أثناء مجالس الفاتحة هب كل من عرفك لتقديم واجب العزاء، كلهم بنبض واحد يحبونك ومتألمون لرحيلك! صدق النوايا نعي يدمي القلب.

رحلت نفس لم تشتك من ضراوة وجفاء الأيام قانعة بأنها وهبت عمرها لإسعاد الشباب من رأس تنورة مرور بمحافظة القطيف إلى الدمام.

تحية خاصة/ لإبنه يوسف والأخ عبد الرسول حليل والعزيز سعيد الجيراني الذين أمدوني بصور المرحوم المتنقلة عبر سنين عدة.