آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 8:37 م

العطاء الاجتماعي

محمد أحمد التاروتي *

ثقافة البذل تشكل محفزا أساسيا، في تنامي ظاهرة العطاء بمختلف أشكاله، في البيئة الاجتماعية، فهذه الثقافة قائمة على النظرة الإيجابية، لمفعول البذل على الصعيد الفردي والجمعي، بحيث تبرز على أشكال مختلفة ومتعددة، فتارة تكون عبر إطلاق المبادرات ذات الطابع المادي، لإنقاذ بعض الشرائح من حالة البؤس والمعاناة، التي ترزح تحت وطأتها، وتارة أخرى تتمثل المبادرات في إطلاق برامج لتعزيز قيمة الذاتية، لدى مختلف الشرائح الاجتماعية، انطلاقا من مبدأ ”علمني كيف أصطاد ولا تعطني سمكة“، وبالتالي فإن ثقافة البذل تكشف جانب الإنسانية لدى المجتمع، بعيدا عن الأنانية والانتهازية، التي تؤطر بعض الممارسات لدى فئات اجتماعية.

الآثار المترتبة على ثقافة البذل في البيئة الاجتماعية، يمكن تلمسها بصورة مباشرة وظاهرة، في إخراج بعض الفئات الاجتماعية، من مأزق النظرة السلبية إلى الجانب الإيجابي، عبر وضع الخطوات العملية لطمس النقمة تجاه المجتمع، خصوصا وأن الفوارق المادية والممارسة الطبقية في المجتمع، تخلق حالة من الانتقام الداخلي، جراء الحرمان الذي تعيشه، بعض الفئات الاجتماعية، وبالتالي فإن ثقافة البذل قادرة على إحداث تحولات جذرية، في طريقة التفكير تجاه البيئة الخارجية، الأمر الذي يساعد في خلق حالة من التوازن الاجتماعي، عبر إخراج الفئات الأكثر بؤسا من حالة المعاناة، والفقر المدقع، إلى العيش الكريم، بعيدا عن الممارسات الانتهازية، وتكريس الفوقية، نتيجة امتلاك بعض الصلاحيات أو الإمكانات المالية.

الفوارق الاجتماعية، واختلاف مستوى المعيشة، على الصعيد الاجتماعي، حالة طبيعية وضمن النسق الاجتماعي المألوف، بيد أن المشكلة تكمن في استخدام هذه الفوارق في الثقافة الاجتماعية، لإعطاء صبغة قانونية لمثل هذه الفوارق الاجتماعية، حيث تعمد بعض الشخصيات إلى استخدام النفوذ المالي، في فرض السيطرة على الفئات الفقيرة، مما يولد الحسرة والخيبة في النفوس، بحيث تظهر على أشكال بعضها ذات صبغة انتقامية، والبعض مرتبط بطبيعة التعاطي مع تلك الشخصيات الانتهازية، وبالتالي فإن تأسيس ثقافة قائمة على المنافع المتبادلة، والعمل على تكريس حالة البذل في النفوس، يعزز من التماسك الداخلي، ويقود لحالة من الوئام الأهلي، والاستقرار النفسي في النفوس.

العطاء الاجتماعي يتجلى في طريقة التفكير، وكذلك في الآليات المستخدمة في التعامل مع المحيط الخارجي، حيث تعمل ثقافة البذل على وضع الفئات الاجتماعية تحت المجهر، من أجل إخراج المبادرات الفاعلة إلى السطح، مما يعطي قيمة معنوية كبرى في النفوس أولا، وإحداث تحولات حقيقية في طبيعة التفكير الاجتماعي ثانيا، خصوصا وأن ثقافة العطاء قادرة على إحداث انقلابات كبرى في طبيعة التفكير، الأمر الذي يتجلى في اتخاذ مواقف أكثر مرونة، وأحيانا مواقف متناقضة تماما للآراء السابقة، جراء سيطرة النظرة الإيجابية على التفكير، والدخول في حالة التصالح الداخلي والخارجي.

عملية التحولات الاجتماعية مرتبطة بالقدرة على ابتكار الأساليب، والممارسات القادرة على شحن النفوس بالاتجاه الإيجابي، لا سيما وأن هناك ممارسات وأعمال تعمل على تعظيم النظرة السلبية، لأهداف عديدة وغير سليمة على الإطلاق، وبالتالي فإن محاولة إخراج الطاقة السلبية من النفوس، يستدعي اتخاذ مواقف أكثر مرونة، وانتهاج أساليب ابتكارية لاستقطاب تلك النفوس المشحونة، في الاتجاه المعاكس، بمعنى آخر، فإن التحركات المشبوهة قادرة على تخريب المساعي الجادة لنشر ثقافة البذل، في البيئة الاجتماعية، بيد أنها ليست قادرة على السيطرة التامة على الفطرة الإنسانية السليمة، الأمر الذي يستدعي تحريك الجوانب الإيجابية، وعدم الالتفات إلى ردود الأفعال السريعة، من خلال التركيز على العطاء بمختلف المجالات، ”“ أحسن إلى من شئت تكن أميره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره ".

تبقى ثقافة العطاء عنصرا فاعلا، في تحريك البيئة الاجتماعية بالاتجاه السليم، نظرا لقدرة هذه الثقافة على الارتقاء بالنفوس، وقمع الأنانية الساعية إلى العيش، بعيدا عن المعاناة الاجتماعية، وبالتالي فإن ثقافة البذل تشكل مدخلا واسعا نحو التماسك الداخلي، وتعزيز دور الفرد في البيئة الاجتماعية، باعتباره المحرك الأساسي للكثير من التفاعلات الاجتماعية.

كاتب صحفي