آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 10:22 م

تأمّلات ذاتية في تسابق السِّهام العاتية

عبد الله أمان

... ولو تأمّلت أوراقي لتقرأها… رأيت تأمّلاتي جُلّ أوراقِي.

1. لَا أقصدُ حَرفيًا، باستخدام لفظةِ ”السّهامِ“ المَارقةِ العاتِيةِ، في سُطور خاطرتي، انطلَاقة فَوجٍ أهْوَجٍ أَرْعَنِ، مِن تِلك الأنصالِ الحديديةِ، التي تُرسَل عَشوائيًا بطَيشٍ؛ وتُصوَّب بحَماقةٍ، عِند مُفترقِ هُنيهاتِ اشتِدادِ واحتِدادِ وَطيسِِ نيرانِ المعركةِ المُستعرةِ، التي لَا تَعرِفُ وَحشِيةُ آلتِها المُدمّرةِ المُهلِكةِ باحتشامٍ واحترامِ، لدِيباجة لُغة الحكمةِ الحكيمة؛ أو تَنصاعُ مِطواعةً، إلى مَناضدَ مُنتدى مِيثاقِ هُدنةٍ حَليمةٍ، مِن ذائقةِ فنّ عالٍ، مِن أرتبِ التسوياتِ العقلانيةِ الرصِينةِ، التي مِن شأنها أنْ تَضمنَ مَكاسِبَ ومَغانمَ الحقُوقِ؛ وتَصونَ مَقامَ ومَنزلةَ النفسِ البشريةِ المُحترمةِ… إنّما قَصدتُ بصفاءِ تأمّلٍ مُبتهجٍ، ونقاءِ ارتياحٍ مُنشرحٍ، في أفقِ ناصيةِ باكُورةِ هذا الصباح الباسَم الحالِم، أنَ أبدأ مُستبشِرًا مُستبصِرًا، بضبطِ رَصدِ إبرةِ بُوصلةِ أحلَى سَاعاتِ يَومِي الحاضِرةِ، بإطلاقِ ”تَورِيةٍ مَجازيةٍ“ مُتفائلةٍ مُتناغمةٍ - إنْ صحّ التعبير - في غُضونِ أنعمِ بُرهةِ ارتشافِ كُوبٍ مِن مَشروبِ القهوةِ الصباحِيةِ الساخِنةِ؛ لأَسْتلّ - بتأمّلٍ وتدبّرٍ - مَع ارتشافِ جُرعةِ كلّ رَشفةٍ سَاخنةٍ مَاتعةٍ، خَيطًا مُلوّنًا، مِن ’غُرَزِ ”نَسِيجِ مَباهجِ الحياةِ السعيدةِ؛ وأُمْعِنَ النّظرَ في تطريزِ ظاهرِ نَسيجِِها المُتقَن؛ وأُنْعِمَ التفكّر في ثنائيةِ مَلَكةِ التبصّرِ والتروّي الحالِمة ثانيةً، في عَلياءِ رِقّةِ ضُوءِ صَحوةِ الصباحِ، المُتسلّلِ خِلسةً، بمَا تُهديهِ لنا - تَحنُّنًا وتَفضُّلًا - يدُ ذائقةِ الحياةِ المُشرقةِ، مِن كَريمِ عَطاءٍ، ونَبيلِ سَخاءٍ؛ لتُؤطّر سَابغةَ رِفدِها السخِي؛ وتُسدِي بنَعمائها المُتناهِي؛ وتُنِير جليلَ هِبةَ فضلِها، بزخمِ ومِيضِ أَلَقِها البهِي المُتنامِي، أجرام مَناطِيد السعادةِ المُنتشيةِ زَهوًا، في أُفقِ عَنانِ سَماءِ أطيافٍ مُلوّنةٍ مِن صَقيلِ وِعاءِِ جَعبةِ“ سهام" التفاؤلِ والأملِ؛ لتُرفرّف عَلائم الأطيافِ الجاذبةِ خفّافةً وَلهَى، على جِباهِ مَن اشتشعروا احتِسابًا ذاتيًا، لَذّةَ ومُتعةَ الحياةِ المَانحةِ المِعطاءِ قناعةً مُحقّقةً؛ واستبشروا لِزامًا مُرتقبًا، باستشرافِ مُستقبلٍ وَاعدٍ رَائدٍ، بَدلَ سَكِنةِ التقوقُعِ المُستكِين، عِند أعتابِ مَحطّ مِنصّات إطلاق فَورةِ السهامِ المَسعورةِ المَارقةِ سَاعةً، في قِمم مُعتركِ وَطيسِِ حَومانةِ المعركةِ الحاطمةِ…!

2. وعِند اقتراب هُنيهاتِ بُزوغِ تباشِيرِ خُيوطِ الفجرِ الرّماديةِ، تصحُو الأمّ الحَالمةُ، مِن سُكونِ رَقدتِها الماتعةِ، بأَريحيةٍ وحَيويةٍ نَشطتَين، على صَوت بُكاء طفلِها الرضِيعِ المُتوجّع، وقد أخذهُ الجُوع؛ ونالهِ العَطش؛ لتنهضَ نخوةُ الأمّ الرؤومِ

الحانيةِ، مِن وَثِير فِراشِها؛ لتبادِرَ بِجَذبِ وضَمّ الطفلِ الباكي إلى لَصِيقِ صَدرِها؛ وتُسارعَ بتخفِيفِ شِدّةِ هَياجِ صُراخهِ المُتعالي؛ بإرضاعِه ”بلسَم“ ماء الحياةِ؛ وإهدائهِ ”إكسير“ طُعم السعادةِ؛ ومَنحهِ أرصِدةَ العطفِ المُستحقّة، وأنواطَ الحَنانِ المُعتادةِ… عِندئذٍ تَستشعِر داخِلةُ الطفلِ الهادئِ السعيدِ، المُترّبع في دِفءِ أحضانِ أمّه انتعاشًا مَغبوطًا، بعطَايا أنامِل يدٍ كَريمةٍ رَحيمةٍ، وقد امتدت إليه شَفقةً وعَطفًا، بدورةِ إرضاعهِ الحانيةِ؛ وهمّت ساعةً بتنظيفِ بدنهِ بعنايةٍ؛ دُونمَا تأخّرِ، أو تباطُؤ... وبفائقِ رَيعٍ مَمنُوحٍ، ورائقِ سَماحةِ مَرنةٍ… ليُعَاوِدَ الطفلُ ”المُنتشِي“ توًا، دَورةُ النعاسِ الساحبةِ؛ وقد شَمِلهُ زخمٌ وافٍ، مِن أسبابِ الراحةِ المُريحةٍ؛ وعَمّتهُ مَنابعُ الطُّمأنينةِ المُطمئنّةِ؛ وغطّاهُ دِثارُ النومِ الهادئ، مِن أعلَى الرأس، إلى سَائر أخمصِ القدم...!

3. هذا، وبعدَ غَفوةٍ لزُهاء سَاعةٍ، لمقامِ الأمّ وطفلها المَدلّل، تستيقظُ أسرابُ الأطيارِ الحَالمةِ، مِن طُولِ سُباتِ هَجعتِها الليليةِ؛ وتَخلعُ لِباسَ رَاحتِها، بنَشاطٍ وحَيويةٍ؛ وتنطلقُ زَاهيةً مُغرّدةً؛ لِتملأََ لُجّةَ فَضاءِ الكونِ الفسيحِ، مِن جديدٍ، بأحلَى، وأعلَى، وأسمَى سُلّم نَوتاتٍ مُوسيقى تغريداتِِها الفاخرةِ المُتناغمةِ؛ لتُوقِظَ ذَرّات رِمالَ الشواطئِ الذهبيةِ؛ وتُطرِب أشجارَ الحدائقِ الخضراءِ؛ وتُغبِط زُروعَ البساتينَ المُثمِرةِ؛ وتُدوّي زَاهيةً لَاهيةً، في بُطونُ الأوديةِ السحيقةِ؛ وتُحفّز، بعمِيمِ واسِع نفرتِها الصباحيةِ النشِطةِ، سَلالِم نغمِ الحياةِ المُتناميةِ، باستِشرافِ ساعاتِ يومٍ جَديدٍ نَضِرٍ؛ وتؤطّر - واثِقةً داعِيةً - بتغريداتِ رِفقٍ وصِدقٍ - إلى تدوينِ سُطورِ دِيباجةِ صَفحةٍ ناصعةٍ، في رِقاعِ مَتنِ مسرحِ الحياةِ؛ مُستبشرةً وَلهَى بشُعاعِ الشمسِ، البازِغ توًا، في أَعلى ناصيةِ جبينِ الأُفقِ السامِقِ...!

4. وقبلَ انْ تُسرِف الشمشُ الساطعةُ، بنشرِ ونثرِ حُزَمِ أشعّتِها الذهبيةِ، يتظافرُ لَفيفُ جُهود الأناسِي الكادِحين، تحت قُبّتِها؛ ويتآلفُ حَرَاكُ جُلّ مَساعِيهم الخيّرةِ؛ وتَتبايَن نهضُةُ مُختلفِ هِممِهم المُستنفِرةِ، إلى السعي الدؤوبِ ورَاء طلبِ الرزقِ المُعالِ؛ وكَسبِ نائلةِ لُقمةِ العيشِِ الحلالِ؛ واللّحاقِ المُبرمجِ المُستدامِ ببِدْءِ ساعة استهلالِ مَهامّ الأَعمالِ الصباحيةِ اليوميةِ المُعتادةِ، بقوائم أجنداتِ؛ تَسييرِ أعباءِ سِلال المصالِح؛ وتَيسِير مُتطلّباتِ تحقيق مُختلفِ المطامِحِ الشخصيةِ؛ وتدوير مَهامِّ ريعِ المنافعِ والمرافقِ العامةِ، بفكرٍ مُدبّرٍ، وعِلمٍ مُسطّرٍ؛ لتدُبّ سائر مُجرياتِ ومَطامحِ الناسِ؛ ويَستقوِي قائمُ مَطالب أمُورِهم، بشُمولِ حِرصهِم الدائبَ؛ وعُمومِ مَواطِئ واسعِ دَبِيبِ أقدامِهم الثابتةِ، على شَفا أعتابَ فَيء سِدرةِ الحياةِ؛ وفي ظِلال سَويّةِ أدِيمِ كَوكبِنا الزاهرِ الفاخرِ...!

5. هذا، وبعد أنْ تَنتشِر وتَستقِرّ جُموعُ المُوظّفين الكادِحين، عَن بَكرةِ أبيهِم، في مَقارّ سائر مَيادين أعمالِهم اليوميةِ المُعتادةِ، تُقدَحُِ وتُطرَحُ بحماسةٍ وإقدامٍ، مُختلفُ وسائلِ الاتّصالِ المَسموعةِ والمَرئيةِ، والمُتحرّكةِ، حَراكها النشط، على اَشُدّه؛ لتُعلِن عَن بدءَ مَنظومةِ تَسوياتِ أعمال يومٍ جَديدٍ، تُسَوّى فيه أعمال ومطالب الناس؛ وتُقضَى فيه حَوائجُهم؛ وتُنظّم فيه شُؤونُهم الخاصّةِ والعامةِ… ومِن أعلى أسطُحِ المَناضدِ الفخمةِ، وفي مُعتركِ ”رَسمِيات“ أجواء المكاتبِ الأنيقةِ، يُطلب إلى سَائر المُوظفين القابعين خلف مَكاتِبهم؛ وفي عُقرِ مَيادين أعمالِهم: العمالُ اليدويون، والأطباء، والمهندسون، والمعلمون… إلى توخّي الصّدق، والإخلاص، والدّقة، والأمانة، ورُوح التّفاني... في أداءِ واجبات العملِ المُناطِ على عَواتِقهم؛ وهذا مقامُ نبيّنا الكريم، عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الغُرّ المَيامِين، أفضل الصلاةِ، وأتمّ التسليمِ، يُذكّر ويُؤكّد على مَهامّ الإخلاصِ في أداءِ الأعمالِ المُوكَلةِ، إلى مَن ائتمِن عليها، بحُسنِ أدائها على أكمل وجهٍ، وأتمّ قيام: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ» *… وذلك لإِبراءِ الذّمةِ، وإِراحةِ الضّميرِ، وحَملِ الأمانةِ؛ والشعورِ بمِلء السعادةٍ؛ والظّفرِ بمَفازةِ مَحبّةِ ورِضا الخالق، جَلّ وعَلَا… ويَستوقَفُني المثلُ العربي المُدوّي الرّصِين، في غُرّةِ نَسقِ السّياقِ: «كُلُّ شَيْءٍ بَالأََمَلِ، إِلَّا الرِّزْقُ بِالعَمَلِ».

* الهوامش:
* د. روحي البعلبكي- موسوعة روائع الحكمة والأقوال الخالدة- دار العلم للملايين ط 8 ص 455
* المصدر نفسه ص 457