آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 12:36 ص

لعلها راضية لك...!

الدكتور محمد المسعود

في كل رجعة لله تمام الرضا يقينه وعينه! ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً [الفجر: آية 27,28] هنا صفتان: الأولى «راضية» في ذاتها عن ذاتها، وهذا لا يتحقق مطلقا دون تمام الرجوع إليه، والثانية «مرضية» من نعيم ربها ومن عظيم عطاياه، وجميل هباته..!

مع كل بلية نُبتلى بها، تتفاوت الفرص، وتتباعد الدرجات، وتختلف المنازل، ذاك لأن كل ألم يستبقي في القلب حسا من حنان الله، ويقينا بالعطية السابغة المرضية منه ولو بعد حين..!.

وظيفة البلية أن تردك، وأن ترجعك، وأن تنجيك من الغرق في غرور ذاتك، أو طغيان نفسك، أو تيقظ قلبك من غفلة طالت حتى أغلقت منافذ النور إليه، أو تلين قسوته لقلة ذكره ولدوام الإعراض عن ربه.

ينبغي على الدوام أن تؤمن أن البلية راضية لك.. ومرضية لنفسك حين تدرك لطف الله المكنون في ألمها، وفي تفاصيل وجعها، تستشعر الغبطة التي لن ترغب أن تتقاسمها مع أحد، ولن تخبر عنها أحداً.

بقي أن تعرف أن «وقت الله» يختلف عن وقتنا.. وقد يتباعد عن هشاشة العجلة والاستعجال فينا، والذي خلق معنا حتى كأنه أنفسنا، فلا صبر لنا على كل ما نكره، ولو كان فيه الخير كله، ولا نصبر على ما نحب، ولو كان في عُسيلته تلفنا، أو فساد قلوبنا، أو ظلمة أرواحنا..!.

إن الله يهبك عطاياه، وينزل عليك رحمته ولطفه، في الزمن الذي تحدده حكمته، وحبه لك، وهو زمان غير خاضع لرغباتك الآنية، ولا يخضع لحدود وعيك، وإدراك عقلك وأدواته..!.

يٌقال أن أيوب استحى من الله أن يخبره عن وقت كشف الضر عنه! وزمان اللطف به، ونزول الرحمة عليه.. حمل ثقيل في ثماني عشرة سنة تامة في غير نقص!! هنالك قال بخجل مرتبك، وحياء عظيم «ربي إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين». أحمال ثقال على من يحسها، لا يقدر عليها أحد، ولا يصبر على حملها أحد! في ثماني عشرة سنة لم يُذهل عنه..!، ولم يعف قلبه عن الامتلاء به، رغم أن كل جزء منه يصرخ بوجع لا يُحتمل، وألم لا يصمت ضجيجه.

ولكنه في رضا نفسه محض مس رقيق من الحنان المنان الذي يتقلب بين يديه، وقلبه في مكاشفة لا تزول ولا تنقطع أبدا.

فترك الوقت له الزمان زمانه.. والعبد عبده.. والمقادير كلها بيده.. والمصائر كلها مطويات بيمين.. «كن» فيكون واحدة كلمح البصر أو هي أقرب.

وحين يأتي زمان عطيتك بعد يقينك، وصبرك، تنال وعد الله الذي لا يخلف وعده أن تكون نفسك راضية ومرضية لك، كأنك لم تحرم منها أبدا، وكأنك لم تتألم فيما مضى من عمرك، وحين ذاك من أقصى قلبك يأتيك يقين يسعى.. أن وقت الله هو خير من وقتك، وإن حرمانه لك في زمان رغبتك، كان عطية جزيلة الكرم عليك. وإن المنع عطية، ولكل نعمة زمانها التي يستبقيها عليك، وإن كل ألم هو ثمن بخس لما أنت بحاجة إليه من النضج والوعي والمعرفة، وإن كل وجع هو مقدمة ضرورية لكمالك الذي إليه تسعى، والذي بدونه لا تتطهر من رعونتك وجهلك، ولا تصبح لائقا بجواره ولا بالقرب منه.

فقل مع كل بلية تبتلى بها.. لعلها رضا ولعلها تكون راضية لك.. ومرضية عليك..!