”فرضية جعدة“ في موت الإمام الحسن (ع) وقرائن الرفض
ثمة قولان في سبب موت الإمام الحسن : الأول أنه مات بسبب مرض ذات الرئة؛ كان مبطونًا، وقيل هو السِّل. والقول الآخر إنَّه مات بالسُّمِّ[1] ، وهو الأشهر، والأشهر فيه أن زوجته جعدة بنت الأشعث بن قيس هي التي دست له السُّم، والأشهر في روايات هذا القول أن ذلك كان بتحريض من معاوية بن أبي سفيان[2] . بناءً على أنَّ ليس كل مشهور له أصل «أي دليل»، وبناءً على أصالة البراءة، وأن التهمة لا تقوم إلا على دليل أو إقرار، ثمة قرائن تشير إلى أن المتهمة جعدة قد تكون أبرأ من الذئب من ”قميص يوسف“ [3] .
ففي الوقت الذي تتهم الروايات زوجة الحسن جعدة بسَمِّ زوجها بعض الروايات الأخرى تُبرِّئُها، أذكر مضامينها في النِّقاط التّاليّة:
1» الحسن لم يُسَمِّ مَن سمَّه ورفض أن يَعْرِفه أخوه الحسين
مما قاله الحسن لأخيه الحسين «عليهما السلام» حين سأله عمّن سمّه: «لئن كان صاحبي الذي أظن الله أشد نقمة. وإن لم يكن ما أحب أن تقتل بي بريئاً» [4] ، و«يا أخي إنما هذه الدنيا ليال فانية، دعه حتى ألتقي أنا وهو عند الله، وأبى أن يسميه» [5] [6] . وانظر أيضاً فقرة غياب القصاص الشرعي أدناه.
2» تهافت دوافع ارتكاب الجريمة
تذكر كثير من ا لروايات أنّ معاوية أغرى جعدة بالمال والزواج من يزيد ابنه[7] . ولكن يزيد في سنة موت الإمام الحسن ، سنة 50 من الهجرة كان شاباً وعمره 24 سنة «من مواليد سنة 26 هـ »، وجعدة تكبره سناً بسنوات كثيرة. والأهم، هل تحتاج جعدة الزواج من غير سيد العرب، الإمام الحسن في وقتها؟ وهل ينقصها الشرف وهي زوجة حفيد الرسول الأعظم ﷺ أو المال وهي عند ”كريم أهل البيت“ ؟
قيل إنها كانت تبغضه، فهل كانت وهذا حالها تبقى معه حوالي 15سنة؟ منها خمس في حياة أبيها الأشعث. وقيل أيضاً إن بينها وبين الحسن منازعة، وهَمَّ بطلاقها، فأرسل [معاوية] إليها سماً لتسقيه إياه…؛ فحملها ما كان بينها وبين الحسن وما تخوفت من طلاقه إياها، وما عجله لها معاوية وما وعدها به على أن سقته ذلك السُّم. من الشبهات المشهورة أنَّ الحسن كثير الزواج وسريع الطلاق فإذا هَمَّ به لا يطول قراره وتنفيذه إلى مدة وصول الخبر إلى معاوية في الشام وإرساله السُّم وتنفيذ العملية. فعلى أقل تقدير، ستكون جعدة ليست في بيت الحسن حال وصول الخبر إلى معاوية.
3» اضطراب الروايات في عدد مرات دسّ السُّم
الإمام الحسن تعرض للسَّم عدة مرات، حسبما نقل عنه قوله هذا. وهناك مَن يقول إنها مرتان وآخر ثلاث مرات وآخر عدة مرات، ووصلت إلى سبعين مرة، من دون إشارة إلى من سَمَّه وأين ومتى. فهل كانت كلُّها عن طريق جعدة؟ سُمَّ «سبعين مرَّة، فلم يعمل فِيه السُّم» [8] ، كيف هذه المرَّة «الواحدة والسبعين» فقط نجح السَّم ليقتل الحسن؟ أليس من الممكن أن يكون للمحاولات السابقة مضاعفات قاتلة؟، كما تشير الروايات في سَمِّ النبي ﷺ [9] .
4» متهمون آخرون
إضافة إلى جعدة، سواءً بتحريض معاوية، أو يزيد، أو لأنها كانت شانئة له وتبغضه، أو لأن الإمام همّ بطلاقها «كما مرّ أعلاه في فقرة تهافت أسباب الجريمة»، ذكرت الروايات متهمين آخرين:
أ» زوجة أخرى سمَّوها
قال الهيثم بن عدي: «دس معاوية إلى ابنة سهيل بن عمرة امرأة الحسن مائة ألف دينار على أن تسقيه شربة بعث بها إليها، ففعلت» «أنساب الأشراف، 747، موسوعة ابن عباس، ج5، ص101-103، جواهر التاريخ، الكوراني، ج3، ص277».
ب» خادم لم يُسَمّوه
قال الواقدي: وقد سمعت بعض من يقول: «كان معاوية قد تلطف لبعض خدمه أن يسقيه سما» «تاريخ ابن عساكر، ج2، ص، 229، البداية والنهاية، ابن كثير 8:43».
ت» معاوية بن أبي سفيان
بعضهم ذكر أن معاوية متهم مباشرة وليس بحض وإغراء المتهمين السابقين، بما فيهم جعدة. يقول سبط ابن الجوزي: «و قال ابن سعد في «الطبقات»: سمه معاوية مرارا لأنه كان يقدم عليه الشام هو وأخوه الحسين» «تذكرة الخواص، ص192، ولم أجده في طبعات طبقات ابن سعد، ويذهب البعض إلى أنّه قد تم حذف هذا النص منها «جواهر التاريخ، علي الكوراني، ج3، ص277».
ومن المهم جدّاً، في حال أنه مات مسموماً، أن نذكر بأن أعداء الإمام كثيرون ومتعددو الأسباب. أولهم شيعته، وخاصة أهل الكوفة الذين غضبوا منه ورفضوا تنازله عن الخلافة لمعاوية وعيروه وكانوا يسمونه «مُذلّ المؤمنين» بل كفَّروه وحاولوا قتله. وألحُّوا على الإمام الحسين بالخروج، لكن وجود الإمام الحسن ظلَّ العائق أمامهم، وبيعة الحسين لمعاوية التي ظلت في عنق الإمام بعد وفاة أخيه الحسن. وهناك الخوارج المتربصون بالانتقام لقتلاهم على أيدي أبيه، والحسن كان في حربه ضدهم، وهناك الحاقدون من ذوي ضحايا معركة الجمل وصفين، فأعداء علي كُثر، وربما انتقموا من الحسن لهذا السبب[10] .
5» غياب القصاص الشرعي
هذه المتهمة «جعدة» لم يقتص منها أولياء الدم «أبناء القتيل» أو أخوه الإمام الحسين الذي كان حريصاً على معرفة داس السُّم من أخيه ليقتله. وذكر اليعقوبي: قال الحسن: «لقد لفظت طائفة من كبدي أقلبها بهذا العود، ولقد سقيت السم مرارا وما سقيت مرة باشد من هذه! وان الحسين سأله: أيا أخي: مَن صاحبك؟ قال: تريد قتله؟ قال: نعم! قال لئن كان صاحبي الذي اظن الله أشد نقمة. وإن لم يكن ما أحبّ أن تقتل بي بريئا» [11] . وقد ذكر الأخباريُّون أنَّه: «لما حضرته [أي الحسن] الوفاة قال الطبيب وهو يختلف إليه: هذا رجل قطع السم أمعاءه، فقال الحسين: يا أبا محمد؛ أخبرني مَن سقاك؟ قال: وَلِمَ يا أخي؟ قال: أقتله والله قبل أن أدفنك، ولا أقدر عليه، أو يكون بأرض أتكلف الشخوص إليه. فقال: يا أخي إنما هذه الدنيا ليال فانية، دعه حتى ألتقي أنا وهو عند الله، وأبى أن يسميه» [12] .
إضافة إلى هذا، ذكر الحسين في مراسلاته مع معاوية أسماء الذين ”قتلهم معاوية“ «كحجر بن عدي وأصحابه»، وهم بالطبع ليسوا أعزَّ عنده من أخيه الوحيد من أُمِّه فاطمة وأبيه علي «عليهما ا لسلام». كما أن الحسين في مراسلاته مع معاوية ونقده ليزيد لم يتعرض لمسألة السُّم ويتذرع بها. وعند رفضه بيعة يزيد وخروجه إلى الكوفة لم يحتجَّ بسَمِّ الحسن، ولو فعل ذلك لكان موقفة أقوى، وربما استمال الناس أكثر[13] .
6» غياب الثأر الهاشمي
عند العرب «قاعدة الثأر»، التي تشبه أن يكون الثأر فيها عقيدة من العقائد الدينية عند العرب، كما يقول جواد علي في مفصّله» ج2، ص399 - 401»، ومن هؤلاء العرب بنو هاشم، المعروفون بالشهامة والحميّة، وقد ظهرت هذه النزعة عندهم في مواقف عديدة، منها في قضية كربلاء، حينما رفض بنو عقيل «أخوة مسلم» العودة من مسيرهم للكوفة مع الإمام الحسين بعد علمهم بمقتل أخيهم في الكوفة، والعباس ابن علي حين قُتِل أخوته من أُمِّه «أم البنين» عبّر عن رغبته لأخيه الحسين في القتال ليثأر لهم. نزعة الثأر ظهرت حتى في أراجيز بعض شهداء كربلاء، كمحمد بن مسلم بن عقيل، وهو غلام لم يتجاوز الثالثة عشرة، مطلعها:
أطلب ثأر مسلمٍ من جمعكم *** يا شر قومٍ ظالمين فسقه
لكن الزخم الثأري غاب عن قتل الحسن، فلا «يا لثارات الحسن»، ولم يصبح «الثأر» ثيمة في البيت العلوي كما حصل بعد واقعة كربلاء[14] ، وهو «المقتول بالسمّ»، والذي لم يحظ أحدٌ بتشييع جنازته ودفنه في المدينة مثله من كثرة المشيعين، وقيل: ولو طرحت فيه إبرة لما وقعت إلّا على رأس إنسان، وأنّ البقيع ما كان يسع أحداً مِن كثرة الناس، وقد أقام نساء بني هاشم عليه النّوح شهراً، وقيل «حَدَّ نساء بني هاشم عليه سنة». هذا وقاتله «معروف» بالشخص والاسم، كما يُدّعى!
7» زواج جعدة بعد الحسن
المتهمة جعدة عاشت حياتها العادية بعد الحسن، وتزوجت يعقوب بن طلحة بن عبيد الله، الصحابي المعروف، وخصم الإمام علي في حرب الجمل، وقتل فيها، وقد أنجبَت جعدة ليعقوب ثلاثةً منَ البنين وهُم: إسماعيلُ وإسحاق وأبو بكر.
المهم في أمر هذا الزوج الثاني لجعدة بعد الحسن هو أنه أخو زوجة الحسن أم إسحاق «بنت طلحة بن عبيد الله»، وهي أم أولاده طلحة بن الحسن، وفاطمة بنت الحسن «أُمّ الإمام محمد الباقر بن علي بن الحسين ، والحسين بن الحسن. بعد موت الحسن تزوج الحسين أم إسحاق، وأنجبت للحسين فاطمة بنت الحسين، وكانتا ممن كان معه في واقعة كربلاء. فهل يعقل أن أختاً تسمع أو تعلم أن أخاها سيتزوج ممن اشتهرت بقتل زوجها، وهذا الزوج هو سبط النبي وسيد العرب في وقته، وترضى أو تسكت؟؛ إنَّ مَن يتجرأ على قتله أو قتل مثله يهون عنده قتل أيّ شخصٍ آخر، يعقوب أو غيره.
بعد مقتل يعقوب بن طلحة في موقعة الحرة «سنة 63 هـ »، تزوجت جعدة بالعبَّاس بن عبد الله بن عبَّاس، فأنجبَت له: محمّداً وقريبة. وبنو العباس مع بنو عمهم آل علي هم بنو هاشم، فهل يعقل أنَّ بني هاشم يرضون أو يسكتون عن زواج أحد أبنائهم ممن ارتبط اسمها بموت سيدهم في وقته؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال والذي قبله أودُّ أن أعرض نص إجابة مركز الرصد العقائدي[15] عن «سؤال لماذا لم يُقتص من جعدة؟»، ومن ثم تعليق مختصر عليه.
نص إجابة المركز:
«وأمَّا عدم القصاص منها، فأمره مرهون بالظروف السياسيَّة التي كانت تحيط بالإمام الحسين الذي كانَ يُمثِّل وليَّ الدم خصوصاً وأنَّ جعدةَ هيَ بنت كبيرِ المنافقين وأساس الفِتن «الأشعث بن قيس» الذي تربطه علاقاتٌ متينةٌ مع رأس البغي «معاوية بن أبي سفيان»». انتهى.
هذه إجابة غير مقنعة ولا تؤكد التهمة على جعدة؛ إضافة إلى أنّ حشر اسم والدها «الأشعث بن قيس» هنا غير موفق، حيث أن لا علاقة له بقضية سَمِّ الإمام الحسن لأنه مات سنة 40 هـ بعد شهادة الإمام علي ، وقيل بعد أربعين ليلة تحديداً[16] .
إنّ عدم تنفيذ القصاص الإسلامي أو الثأر العربي «الهاشمي» قد يشيران إلى أن تهمة جعدة تهمة بلا دليل قاطع وأن شهرة الإشاعة جاءت متأخرة جدّاً. الأقرب بعد اسشهاد الإمام الحسين سنة 61 هـ ، وقد سبق أن ذكرتُ «أعلاه» أنّه لم يحتج بها ضد معاوية أو ابنه يزيد.
إنَّ بروزها وانتشارها بعد واقعة كربلاء، مهما كانت الأسباب والدوافع لها، زجّ جعدة، كفرد، يحتاج إلى دليل قاطع، بعيدًا عن طبيعة الصراع المتعدد الأبعاد والأوصاف.
ولا يبعد بهذه الإشاعة، بغض النظر عمَّن نشرها، أنَّ المستهدف فيها هو أمير المؤمنين عليَّ بن أبي طالب ، وذلك بالطعن في علمه وقراره وأصحابه ومصاهراته. ومع هذا ومع غياب الدليل القاطع، وقع الشيعة في هذا الفخ وتداولوا الذَّم والسب والتشويه لقائد من قواد الإمام علي ولأسرته، من دون فهم وتقدير للظروف التي تحيط الأحداث السياسيَّة. وهذه فرضية تستحق البحث العلمي والدراسة المستفيضة، خاصة أنَّ هناك الكثير ممّا يؤيدها. ولا بد لنا أن لا ننسى أن الفترة التي مات فيها الحسن كانت مضطربة وقد فاض العداء بين أهل العراق والشام، وكان كل طرف يكيل الاتهام إلى الطرف الآخر بلا ورع أو تقوى.
8» قوة قرينة الحال
في تحقيقه لروايات «بحار الأنوار» للمجلسي، يقول الشيخ آصف محسني: «لم تثبت شهادة الإمام الحسن بالسم بسند معتبر والشهرة بين النّاس حاصلة من روايات الباب، لكن قرينة الحال وسيرة معاوية تؤكد تلك الروايات ولاسيما أن جملة من علماء السّنّة ذكروها والحال أنهم لا يرضون باتهام معاوية ونسبة قتل النفس إليه» [17] . لكن، إذا كانت «قرينة الحال» هنا معتبرة، إذاً «قرينة حال» جعدة أقوى حالاً وكشفاً، لأنها «قرينة واقع» [18] ، خاصة بزواجها مرتين بعد الإمام الحسن ، وإنجابها من أقربائه: بني عمّه آل العبّاس وأهل زوجته أم اسحاق، ومن ثم زوجة أخيه الحسين بعده.
إذا كان «التاريخ مجموعة أكاذيب متفق عليها» «قول يُنسب لنابليون بونبارت»، فمن العقل والإنصاف والإيمان التحري والتدقيق فيما ينقل على المنابر وغيرها من كتب وصحف ومنصات الشبكة الإلكترونية ووسائط التَّواصل الاجتماعي، خاصة أنّ المراجع الكبار «حفظهم الله»، على سبيل المثال السيد علي السيستاني «حفظه الله» يؤكدون على خطباء المنابر ب: «تقوى الله و«الورع» و«تجنّب ما يثير الفرقة بين المسلمين ويجلب الضغينة وسوء الظّن فيما بينهم»، وب «الاطلاع المناسب على التاريخ وحوادثه وظروف الوقائع وملابساتها وقيمة المصادر ودرجة اعتبارها»، و«الحذر من الغلوّ في شأن النبيّ وعترته «صلوات الله عليهم» [بنوعيه]: إسباغ الصفات الألوهيّة على غير الله سبحانه، وإثبات أمور ومعانٍ لم تقم حجّة موثوقة عليها» [19] .
استرشاداً بالوصية الجليّة أعلاه، ونظراً لغياب الدليل القاطع، فأنا لا أنفي التهمة عن جعدة ولا أؤكِّدها، ولذا لا أتداولها؛ لأني لم أكن شاهداً وأخاف أنَّ أحد طرفي القضية يوقفني يوم الحساب ليقتص منِّي. كلُّ ما عندي هو قرائن ومحاكمة روايات، ولكنِّي أقول: مثلما أنّ إطلاق سراح قاتل أهون ظلماً من قتل بريء[20] ، فإنَّ الكفّ عن متهمٍ لَهُوَ أقل فساداً أو جرماً من اتهام بريء. والله أعلم.
جاء في سؤال لمركز الأبحاث العقائدية، التابع لمكتب مرجعية السيد علي السيستاني، وجوابه أنّ الروايات الواردة عن كثرة زواج وطلاق الإمام الحسن فيها إشكالات سندية ودلالية « https://www.aqaed.com/faq/4673/ ». رغم تحفظي على عمومية الجواب وإطلاقه حيث هناك روايات في الموضوع صححها علماء الشيعة، إلَّا أنّ فيه فكرة مغريّة بأن تجعلني أتمنى أن الروايات عن سبب وملابسات موته ، وبالخصوص ”مسألة جعدة“، تُحقّق مثلها سندًا ودلالة لتبين الحقيقة في أمرٍ هو أكثر أهمية وخطورة.