الإمام الحسن (ع) حلم يوازن الجبال
جمعت شخصية الإمام الحسن بن علي أكمل الصفات وأفضل الخصال، فهو بحر في العلم والمعرفة، وقمّة في الأخلاق والفضيلة، وأنموذج في العبادة والتهجّد، قد شمل الناس بسخائه وكرمه، وخاصّة الفقراء والمحتاجين.
وهو سبط رسول الله، وابن علي وفاطمة، وقد رأى الناس عظيم محبّة النبي ﷺ له، وسمعوا ما قاله في حقّه وحقّ أخيه الحسين، كقوله ﷺ: «الحَسَنُ وَالحُسَينُ سَيِّدا شَبابِ أهلِ الجَنَّةِ، مَن أحَبَّهُما فَقَد أحَبَّني، ومَن أبغَضَهُما فَقَد أبغَضَني».
وورد أنَّ النَّبيَّ ﷺ كانَ يأخذُ حسنًا فيضمُّهُ إليهِ، فيقولُ: «اللَّهمَّ أنَّ هذا ابني؛ فأحبَّهُ وأحبَّ من يحبُّهُ».
وبايعه الناس بعد استشهاد أبيه أمير المؤمنين برغبة واختيار منهم. وحين نازعه معاوية بن أبي سفيان في مقام الخلافة والسّلطة، ورأى أنّ مصلحة الأمة تقتضي المصالحة حقنًا للدماء، وحفظًا لمصلحة الإسلام والمسلمين، فعل ذلك بكلّ إخلاص وتضحية، ولم يتشبث بالسّلطة والحكم.
هذه الشخصية بهذه الصفات والخصال، كان يفترض أن تكون محلّ ثناء وقبول واحترام، من قبل كلّ أبناء الأمة، وما كان متوقعًا أن يتجرأ أحد على النيل من الإمام الحسن، أو الإساءة إلى شخصيته العظيمة.
لكننا حين نقرأ سيرة الإمام الحسن ، في الحقبة التي تحمّل فيها مسؤولية الإمامة بعد أبيه علي ، نجد أنه قد تجرّع الغصص والآلام، مِمّن تجرأوا عليه ونالوا منه، وخاطبوه بأبشع العبارات، ووجهوا له أسوأ الاتّهامات.
ونذكر بعض المشاهد مما نقله المؤرخون عمّا واجهه قبل خلافته وبعدها:
1/ كان للإمام الحسن غلام يخدمه، وكان عند الإمام شاة فوجدها يومًا قد كسرت رجلها، فقال لغلامه: من فعل هذا بها؟ قال الغلام بكلّ جرأة: أنا، قال الإمام : لِمَ ذلك؟! فأجابه الغلام بوقاحة: لأجلب لك الهمّ والغمّ، فتبسّم الإمام ، وقال له: لأسرك، فأعتقه وأجزل له في العطاء.
2/ روى المبرد في الكامل، قال: إنّ رجلًا من أهل الشام دخل المدينة، فقال: رأيت رجلًا على بغلة لم أرَ أحسن وجهًا، ولا أحسن لباسًا، ولا أفره مركبًا منه، فسألت عنه، فقيل لي: الحسن بن علي بن أبي طالب، فامتلأت له بغضًا، فصرت إليه فقلت: أأنت ابن أبي طالب؟ فقال: أنا ابن ابنه، فقلت له: فيك وبك وبأبيك، أسبّهما. فقال: أحسبك غريباً! قلت: أجل. فقال: إنّ لنا منزلًا واسعًا، ومعونة على الحاجة، ومالًا نواسي منه. فانطلقت وما أجد على وجه الأرض أحب إليَّ منه.
3/ روى الشيخ المفيد أنّ الإمام الحسن خطب جيشه في المدائن فكان مما قال: «إنَّ ما تَكرهُونَ في الجماعةِ خير لكم ممّا تحبُّونَ في الفُرقةِ، ألا وَإِنِّي ناظرٌ لكم خيراً من نَظرِكم لأنفسِكم، فلا تُخالِفوا أمري»، فهتف بعضهم: «كفر الرجل». وشدُّوا على فُسْطَاطِه فانتهبوه، حتّى أخذوا مُصلّاه من تحتهِ. فلمّا مرَّ في مُظلمِ ساباط بَدَرَ إِليه رجلٌ من بني أسد يُقالُ له: الجَرّاحُ بنُ سِنان، فأخذَ بلجامِ بغلتهِ وبيدِه مِغْوَلٌ [سيف دقيق له قفا يكون غمده كالسّوط] وقالَ: اللهُ أكبرُ، أشركتَ - يا حسنُ - كما أشركَ أبوكَ من قبلُ، ثمّ طعنَه في فخذِه».
4/ بعد الصلح دخل عليه حجر بن عدي حزينًا وقال: «أَمَا وَاللهِ لَوَدِدْتُّ أَنَّكَ مِتَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَمِتْنَا مَعَكَ وَلَمْ نَرَ هَذَا الْيَوْمَ».
ودخل عليه حجر بن عدي وقال: «لَوَدِدْتُّ أني متُّ قبل ما رأيت، أخرجتنا من العدل إلى الجور، فتركنا الحقّ الذي كنّا عليه، ودخلنا في الباطل الذي كنّا نهرب منه، وأعطينا الدنية من أنفسنا، وقبلنا الخسيسة التي لم تلق بنا».
ودخل عليه المسيّب بن نجبة وقال - وكذلك سليمان بن صرد -: «ما ينقضي تعجبي منك، بايعت معاوية ومعك أربعون ألفاً».
ودخل عليه سفيان بن أبي ليلى الهمداني وقال: «السّلام عليك يا مُذلّ المؤمنين».
ودخل عليه بعض أصحابه قائلًا: «يا بن رسول الله، أذللت رقابنا».
لماذا النّيل من الإمام؟
وحين نتأمّل هذه العيّنات من مواقف الإساءة للإمام والنّيل منه، نجد أنّ لها بواعث وخلفيات:
1/ هناك من ينطلق من مرضٍ وعقدة نفسية، فيقول للإمام: لأجلب لك الهمّ والغمّ.
2/ هناك من تأثر بالتعبئة المضادّة كما رأينا في قصّة الرّجل الشّامي.
3/ هناك موقف المزايدة الدينية الذي يمثله الخوارج.
4/ هناك القصور في فهم موقف الإمام، وهو ما نجده في موقف أصحابه المخالفين للصلح.
تجاه مثل هذه المواقف كان الإمام يتحلّى بحلم يوازن الجبال، وهي شهادة من أحد أعدائه وهو مروان بن الحكم، فقد ورد في الخبر: «لَمَّا أَخرجُوا جَنَازَةَ الحَسَنِ حَمَلَ مَرْوَانُ سَرِيرَهُ، فَقَالَ الحُسَيْنُ: تَحملُ سَرِيْرَهُ! أَمَا وَاللهِ لَقَدْ كُنْتَ تُجَرِّعُهُ الغَيْظَ، قَالَ: كُنْتُ أَفْعَلُ ذَلِكَ بِمَنْ يُوَازِنُ حِلْمُهُ الجِبَالَ».
هذا المستوى العظيم من الحلم، الذي واجه به الإمام الحسن كلّ تلك الإساءات والاستفزازات، يكشف عن قوة إرادة وعمق وعي وإدراك، كما يدلّ على ثقة الإمام واطمئنانه بمواقفه، أنه يتفهّم الظروف التي أنتجت المواقف المؤذية له.
إنّ سيرة الإمام الحسن تقدّم درسًا بليغًا في الحلم وضبط الأعصاب، ما أحوجنا إليه، على مختلف الصُّعد.
وكأنّ الله تعالى أراد أن يكون أولياؤه الصادقون قدوة لمن يأتي بعدهم من الصّالحين المصلحين، الذين يتجرّعون في مجتمعاتهم مثل هذه الغصص والآلام، بسب بمواقفهم الإصلاحية.
فإذا كان الإمام الحسن في طهره وموقعه ومكانته، لم يكن في مَنَعَةٍ ولا حصانة من ألسن القذف والتجريح، فهل تتوفر المنَعَة والحصانة لغيره؟
وهذا يعني أن يتحمّل المصلحون ما يصيبهم وما يعانونه في سبيل الله، ومن أجل مواقفهم المبدئية. وأن يتخلّقوا بصفة الحلم اقتداءً بالإمام الحسن .
وفي علاقات الإنسان العائلية، ومع زملائه، وفي الحياة العامة، يحتاج الإنسان إلى التدرّب على التحكم بأعصابه تجاه الاستفزازات، وتجاه ما يزعجه، ولا ينبغي للإنسان أن يترك ثورة الغضب تنفجر داخل نفسه، فقد ورد عن علي : «اَلْغَضَبُ شَرٌّ إِنْ أَطَعْتَهُ دَمَّرَ».
وكم رأينا حوادث مرّة دفع أصحابها ثمنًا باهظًا، بسبب هيجان ثورة الغضب في نفوسهم، تجاه مواقف لا تستحقّ ذلك، كالخاف على موقف سيارة أو سماع كلمة نابية.