آخر تحديث: 18 / 5 / 2024م - 7:00 م

”أوبنهايمر“ والوجه الآخر لهوليوود

علي عبد الجليل القطري

”في البداية تشكلت كرة نارية تحولت في غضون ثوان إلى سحب أرجوانية وألسنة لهب تصاعدت فيما يشبه الدوامة نحو السماء، قبل أن تختفي المدينة بأكملها تحت طبقة من الغبار الرمادي الداكن“،

الجنرال ليزلي غروفز، قائد مشروع ”منهاتن“ السري لتطوير القنبلة الذرية خلال الحرب العالمية الثانية، في برقيته ”السرية“ سنة 1945 إلى الرئيس ترومان، واصفًا ما أحدثته أول قنبلة ذرية في التاريخ.

يعرض حاليًا فيلم أوبنهايمر في صالات السينما حول العالم بما فيها هنا في السعودية، الفيلم هو سيرة ذاتية لعالم الفيزياء الأمريكي روبرت أوبنهايمر، المستمد من كتاب ”برومثيوس الأمريكي: انتصار ومأساة ج روبرت أوبنهايمر“، والملقب بـ “أب القنبلة الذرية". وللمصادفة تحل هذه الأيام من شهر آب الذكرى السنوية الثامنة والسبعين للفاجعة التي أحلت بالشعب الياباني أثر الدمار الهائل الذي أصاب مدينتي هيروشيما ونغازاكي مخلفًا وراءه الآلاف من الضحايا المدنيين.

ترك الفيلم انطباعاً إيجابيًا منذ بداية صدوره وعرضه في الصالات على مستوى النقاد والجمهور، خصوصاً في وسائل الإعلام الغربية، إذ حصل على تقييم 8,6 في ”أي إم دي بي“ على سبيل المثال، حقق إيرادات في شهره الأول من العرض، ما يقارب الستمائة مليون دولار تقريبًا، حتى كتابة هذه السطور، وبميزانية تقارب المائة مليون دولار فقط.

على مدى ثلاث ساعات يسرد الفيلم حياة العالم الفيزيائي أوبنهايمر، «لعب دور البطولة الممثل: كيليان مورفي»، منذ أن كان طالبًا جامعياً لامعًا، في جامعة كامبرج، ثم أستاذا جامعيًا في جامعة بيركلي وصولًا إلى ترأسه مشروع مانهاتن خلال الحرب العالمية الثانية الذي توج باختبار وصناعة، وإنتاج القنبلة الذرية التي أُلقيت على المدن اليابانية.

طوال مدة الفيلم تأخذنا الكاميرا إلى الوراء، بتقنية الفلاش باك، كثيرًا بشكل متقطع بين مشهد وآخر على مدى فترات زمنية قصيرة يستخدم خلالها كاتب ومخرج الفيلم، كروستفر نولان الأبيض والأسود بكثافة ليضفي تأثيرًا خاصًا على المشاهد المتعلقة بالجوانب الخفية من حياة أوبنهايمر الشخصية كميوله السياسية، اليسارية وعلاقته العاطفية بجين تاتلوك، العضو في الحزب الشيوعي، وزجته كاثرين، العضو السابق في الحزب الشيوعي، وبأخيه الشيوعي فرانك، وبالعالم ألبرت أنشتاين وعلى الأخص علاقته بلويس شتراوس «روبرت داوني»، رئيس مؤسسة الطاقة الذي كان يكن لأوبهايمر العداء لأغراض سياسية. تتحرك الكاميرا كثيرًا عبر الزمن إلى الوراء خلال جلسات الاستماع للتحقيق مع أوبنهايمر في الشكوك بميوله اليسارية، وبعلاقة «مشبوهة بالتجسس» محتملة لصالح الروس ومدى ولائه للمؤسسة لعسكرية ولمشروع مانهاتن. بعد اختياره من قبل الجنرال ليزلي غروفز «قام بالدور الممثل مات دايمون»، لترأسه مشروع مانهاتن يقع الاختيار على صحراء لوس ألاموس، في نيو مكسيكو على إجراء التجربة الفعلية للقنبلة، بعد تهجير السكان الأصليين من الهنود الحمر منها.

بالرغم من الإطالة في بعض مقاطع الفيلم والتكرار والدخول في تفاصيل رتيبة، وحوارات مملة خصوصًا فيما يتعلق بلجنة التحقيق واستجواب أوبنهايمر، إلا أن المخرج قد نجح في إضفاء بعض عناصر الإثارة والتشويق على الأقل لجمهور كبير من الذين أعجبهم الفيلم، خصوصًا في مشاهد إجراء التجربة، من حبس الأنفاس، الشعور المحدق بالخطر واللقطات السريعة على الوجوه بعيون مفتوحة وقلقة، المؤثرات الصوتية والبصرية إلى العد التنازلي قبل لحظات ”الانفجار العظيم“، الانفجار الذي سيغير وجه التاريخ. لحظة الذروة من التشويق عند نجاح التجربة ولحظات من الزهو والفرح بالانتصار تملىء الشاشة الكبيرة، رفعت فيها الأعلام الأمريكية والتصفيق لا يتوقف والتهاني من فريق مانهاتن تمطر على أوبنهايمر المبتهج، المنتشيًا بلحظة الانتصار الكبيرة.

كان في صالة العرض وفي المقعد الذي أمامي شاب في العشرين من العمر أو أقل قليلًا أزعجني كثيرًا بهاتفه المحمول، ينعكس الضوء الصادر من هاتفه على وجهي، الذي كان يخرجه بين الحين والحين ليلتقط الصور، وفي لحظات التجربة، وهي لحظات مليئة بالترقب والإثارة، تحمس كثيرًا في التصوير الذي كاد أن يقف ويصفق هو أيضا ويرفع العلم الأمريكي معبرًا عن نجاح التجربة. لا أعرف إن كان ذلك الشاب يعلم أن تلك اللحظة أو اللحظات التي كان يلتقط فيها الصور هي اللحظة من التاريخ، قبل ثمانية وسبعون عاما، والتي ستفتح فيها أبواب جهنم وستحرق مئات الآلاف من البشر، وستؤسس لمرحلة جديدة ليس فقط من سباق التسلح النووي المحموم، بل من الاستقواء والهيمنة المطلقة لأمريكا ليس على ألمانيا أو اليابان فحسب بل على العالم أجمع.

مرة أخرى بعد فيلم ”القناص الأمريكي“، هناك بالطبع قائمة ليست قصيرة من الأفلام، لكن هذا الفيلم مشابه في جدليته أو ”محاجتٌه“ لأبونهايمر، الفيلم وهو سيرة ذاتية كما هو الحال في أوبنهايمر من إخراج كلينت أستود وبطولة برادلي كوبر، يسرد الفيلم حياة جندي أمريكي، كريس كايل، جندي شارك في الحرب على العراق، كان في العراق يصطاد العراقيين كالجراد، وقد قتل لوحده مائة وستين عراقيًا بدافع الانتقام لزملائه الجنود الذين قتلوا على يد العراقيين، وفي مقابلة مع الجندي، كريس كايل، صاحب السيرة الذاتية يقول إنه ليس نادمًا عما فعل، ولو تكرر الأمر لفعل ربما أكثر؛ لأنه يعتقد أنه ذهب لمحاربة الإرهابيين، ويجب على كل أمريكي فعل ذلك.

يقدم فريق العمل في فيلم أوبنهايمر على أنه سيرة ذاتية أيضا، ليس أكثر، ليس عن حياة ”مجرم حرب“، كاتب ومخرج أوبنهايمر يصف الفيلم بأنه ”عاطفي ومثير“، ثنائية الخير والشر هي ثنائية متلازمة في أعمال هوليوود، كان من المهم جدًا في الحبكة الدرامية الزج بشخصية، كامنة للشر، مثل ”شتراوس“ الذي كان معاديًا لأوبنهايمر لإضفاء صفة ”العاطفية“ وشيء من الإثارة ”المملة“ على مجريات أحداث الفيلم. في الجزء الأخير من الفيلم يصاب أوبنهايمر بوخزة ضمير ”باهتة جدًا“، يعبر فيها عن أسفه لما حدث أمام الرئيس هاري ترومان، ليبرر الرئيس حينها وهي الشهادة المعلنة لتبرئة أوبنهايمر من جريمة العصر، أن القيادة السياسية هي المسؤولة وهي التي من أمر بإلقاء القنبلة.

الادعاء بأن الفيلم هو مجرد سيرة ذاتية غير كاف، أو إن الفيلم ليس سياسيًا غير مقنع أيضا، الفيلم يتحدث عن سياق وسلسلة من الأحداث العسكرية والسياسية المصيرية غيرت وجه التاريخ، دمرت بلدان وفرضت هيمنة مطلقة، وفرضت قواعد جديدة تتحكم في النظام السياسي العالمي، والفيلم في المضمون يخفي حقائق تاريخية صلبة ومهمة، وأسئلة مهمة كان يجب أن يجيب عليها، كانت الحرب في نهايتها واليابان تحديداً في وضع المستسلم، وهي قبلت بوقف الحرب لماذا القرار بإلقاء القنبلة؟ ولماذا أُلقيت القنبلة الثانية في اليوم الثالث؟ لم نشاهد لقطة واحدة ولو لثواني معدودة للدمار للذي حل بالمدن اليابانية لليوم التالي، بعد حدوث الانفجار، وكأنه قد انتزع عمدًا من الشريط.

يحمل فيلم أوبنهايمر كما يحمل فيلم القناص الأمريكي وأفلام كثيرة إرث ثقيل من الكوارث الإنسانية التي كانت أمريكا مسؤولة عنها بدوافع نفعية، استعمارية بحتة، هوليوود تتنصل حتى من نقل الحقيقة كما هي، بل هي تكرار لسرد قصص من وجهة نظر واحدة، هزيلة، مبتورة. هوليوود تبث صورًا وقصصًا لا تعنينا كثيرًا، بينما نحمل ويحمل الإنسان من بلدان الجنوب مخزون وتركة ثقيلة من المعاناة وآثار الحروب الأمريكية، هي تبقى في ذاكرتنا الثقيلة، لا يحمل المشاهد الغربي أي منها، فهو ربما ”الكائن الخفيف“ الذي يرمز إليه ميلان كونديرا حين يتحدث عن الثبات، الوجود والمعاناة الإنسانية في روايته، ”كائن لا تحتمل خفته“: ”كلما كان الحمل ثقيلًا، كانت حياتنا أقرب إلى الأرض وكانت واقعية أكثر. بالمقابل، فإن الكائن الإنساني عند الغياب التام للحمل يصير أكثر خفة من الهواء، محلقًا بعيدًا عن الأرض وعن الكائن الأرضي، يصير شبه واقعي وتصبح حركاته حرة بقدر ما هي تافهة.

إذا ماذا ترانا نختار، الخفة أم الثقل؟“