تغيير العنوان
حينما تمضي بنا الأيام وتقف بنا بعيدا عن سنين الطفولة بلا طريق للعودة سوى تصفح خارطة الذكريات، سنلحظ فجأة بأننا تقدمنا بالعمر، وسندهش حين نفكر بعدد من فقدناهم وغيبهم الثرى وكأن بعضهم لم يمثلوا جزءاً من حياتنا، وسنندهش أكثر بعدد من افتقدناهم وهم لا زالوا على قيد الحياة، سنلحظ أن الأيام الخوالي كانت ربما حلم مر بها من مر، وربما عشت كثيرا منها بلا وعي وكثير منها بلا ذاكرة، فكل ما تحمله من ذكريات جملية أو مؤلمة ليست سوى عناوين عشتها في سالف الأيام، وأن كثيرا من تفاصيل الأيام تكاد تكون معدومة من ذاكرتك.
في كل مفصل من مفاصل عمرك ستقول بأنه يمثل منعطفا هاما في حياتك، وفي كل حدث يحدث لك ستقول بأنه يمثل نقطة تحول فيها وهكذا دواليك حتى تجد نفسك أمام منعطفات كثيرة ودروب شتى كثير منها ضللت جادتها وكثيراً عدت منها ولربما عدت إليها، والبعض ربما سلكت فيها مسلكا لا عودة منه.
وحين تقف تسترجع شريط حياتك على خارطة الأيام وتنشط ذاكرتك ستتفاجأ بأن محكمة عقلك أصدرت قرارات كثيرة، وصادقت على أحكام عديدة ربما بعضها يصدمك الآن من غرابته وبعضها يحبسك بين قضبان الندم، حتى تعض أصابعك وبعضها يطربك حتى تتغنى به.
الشيء الوحيد الذي لا يمكن نسيانه هو كمية الألم الذي بداخلك وكمية الندم وكمية الأسى على قرارات اتخذتها وكنت تعتقد حينها أن عقلك راجح بما فيه الكفاية فلا يدع لك سبيلا للشك حتى بنسبة صغيرة بأنه سيجانبك الصواب حينها ومع أول منعطف من منعطفات الحياة ستصدم كم كنت ساذجا حين اتخذت تلك القرارات وصادقت عليها وأنت تظن أنك كنت في كامل قواك العقلية لتتفاجأ بأنك كنت في أضعف فتراتها.
وحين تنظر للحياة من زوايا عدة ومرايا مختلفة ستجد متغيرات كثيرة كنت تظن أن رؤيتك لها كانت ثاقبة، وستصدم أيضا بأنك كنت أعشى حينها وبأن الأيام أثبتت لك عكس ما كنت تظن فلا رؤيتك كانت ثاقبة ولا عقلك كان راجحا ولا قراراتك كانت صائبة،
تتغير الأحداث والمستجدات في ملف حياتك بين الحين والآخر، وإن كنت ممن يعيد قراءة الأحداث ستجد أن صفحات عدة كتبتها وهي لا تساوي الحبر الذي كتب بها، ولعلك ستعيد كتابة التاريخ وصياغة الأحداث، وسترسم سيناريوهات مختلفة عما ألفته في كتاب حياتك، الأمر الذي ربما يخلق لك ثورة فكرية وثقافية وصحوة ضد كل معتقداتك السابقة.
وعلى ضوء ما تقدم فلنسأل أنفسنا هذا السؤال: هل نستطيع القول بأن ما ذكرناه إن وجد في شخصية ما فهي شخصية فاشلة أو متخبطة أو سيئة؟
بالطبع لا، فالإنسان حين يكتشف أن جزءاً كبيرا من قراراته كانت خاطئة حتى مع عدم شكه حينها بأنها كانت صحيحة، إلا أنه اكتشف عكس ذلك لاحقا فهذا لا يعني بطبيعة الحال أنه شخصية فاشلة، بل على العكس تماما أعتقد بأنه شخصية ذكية وناجحة فاكتشاف الخطأ وتصحيحه والعدول عنه أمر يتسم به العقلاء والناضجون لا سيما إذا فكرنا بعقلانية في تطور الشخصيات سنجد أن الإنسان تتطور شخصيته وفق التجارب والخبرات التي مر بها واستطاع الاستفادة منها، وهذا هو الفيصل في تقييم الشخصية ومعرفة ذكائها وتطورها إذا لا يمكن لأي فرد أن يتقدم ويتطور اجتماعيا وثقافيا ومعرفيا وعلميا دون خوض الكثير من التجارب وكسب الكثير والكثير من الخبرات، وعلى النقيض من ذلك فالحكم بجهل الشخصية وتخلفها يكون بعدم قدرتها على مراجعة قراراتها وأحكامها السابقة وتقييمها والاستفادة من تجارب تلك المرحلة، والأشد جهلا هي تلك الشخصيات الظالمة لنفسها لاستمرارها في سلك الطرق حتى مع اكتشاف الخطأ وإيمانها به، ولكن لمكابرة أو اعتزاز بالإثم لا يمكن لأنفسهم الاعتراف بها وتصحيح المسار.
والمدار في الكلام هنا هو أن أي تغيير في الشخصية سواء كانت تلك الشخصية هي شخصيتك أم شخصيات أخرى في حياتك إن كان التغيير للأفضل، فهذا مؤشر على ذكاء الشخصية وتطورها واستجابتها لمؤثرات الحياة المتغيرة وهي نتيجة لما مرت به تلك الشخصية من خبرات وتجارب أوصلتها لما هي عليه الآن، وإن كانت مختلفة عما كنت تراه سابقا، فهذا لا يعني تناقضا بل تكاملا فقط غير أنت من نظرتك للآخرين ولا تقف على تفاصيل قديمة ونظرة غابرة لتلك الشخصية التي قاومت وعاندت وقهرت ظروف جهلها ربما أو ظروف غفلتها أو تهاونها أو ضعفها، ثم انتشلت شخصيتها لعالم أقوى وأكمل بفضل تحديها ورغبتها في ذلك، التغيير يحدث دائما في كل شيء، وهذا سنة الحياة والأيام فلا تقف لتنظر للحياة بعين واحدة استوقفها زمان ما ولم تمضي مع ركب التطور والتغيير، فمن لا يتفاعل ويتأثر مع محيطه ومع المتغيرات من حوله، فليس بحي وهو أقرب ما يكون للجمادات.
وبالعودة إلى صراع النفس والتصادمات التي تكون بداخلنا، فهذه الصراعات أمر طبيعي وصحي إذ إنها المؤشر الأقوى والدلالة الكبرى بأنك شخصية ذكية تستطيع تقييم تجاربها السابقة وتغيير أحكامها لتخلق لك حياة أفضل في المستقبل ولمن حولك.
مع كل صفحة تقلبها من صفحات حياتك دع سطرا في نهاية الصفحة، ولا تغلق الكتاب فلربما تعود لتكتب كلمة تغير من معادلات حياتك وتغير عنوان الكتاب.