إنها زينب.. يا قلبي
لا يحمل اتصال «بتول» أي جديد:
- «دعاء» نحتاجكِ.. اكتبي النص ودربي الأطفال عليه، وستأخذين دور السيدة زينب.
ويبدأ ماراثون الكتابة، واستنفار كل خلايا الجسم المنهك لإنجاح العمل، ف «يوم الرضيع» هو العمل المسرحي الذي نقدمه كل عام، لكن بحلة جديدة.
**
عندما انطلق البرنامج قبل 17 عامًا، كان هدفه الأول شرح بعض قضايا عاشوراء بلغة سهلة يستوعبها الأطفال، ثم تطور إلى أن أصبح برنامجًا متكاملًا، يتكون من مسرحية، ومسابقات، وعزاء، وكان الحضور يزداد كل عام.
كانت صدفة غياب الممثلة الرئيسية هو سبب دخولي هذا المجال:
- ”«دعاء».. متوهقين وما في غيرش ينقذنا“.
- ما أقدر.. فلا الذاكرة تساعد، ولا الإمكانات.
- سنساعدك.. وستكونين مناسبة جدًا.
- البرنامج بعد المغرب ونحن الآن وقت العصر.
- سيدتنا زينب ستكون معنا.
انتهت الليلة بنجاح كبير، وأعجب الجميع بالبرنامج، ونجاحي كان الأعجب.
وقفت «بتول» بجانبي، وأخذت تصفني بالبطلة، أحسست أنها فخورة بي، تقبلني، تبتسم كلما التقت عينانا، تمسك بيدي تضغط عليها، تقترب وتهمس: قلت لك ستنجحين.
استمر البرنامج، أول جمعة في العام الهجري يتجدد اللقاء، وفي كل عام يتبادر إلى ذهني هذا السؤال: لماذا أنا؟!
فلا الهيئة ولا المنزلة ولا أي شيء مناسب لهذا الدور.
لماذا أنا من سيؤدي هذا الدور؟!
إنه دور السيدة زينب بنت علي وفاطمة، حفيدة رسول الله، من أنا أمام هذه القامة العظيمة، ومثال القداسة والطهارة؟!
وفي كل عام كان الجواب: السيدة زينب تحبك.
وكنت أهمس لنفسي: اللهم اجعلني ممن يحب سيدته.. وسيدته تحبه.
**
علاقتي بالسيدة زينب ليست جديدة أو طارئة، فأمي اسمها زينب، وكانت منذ أول زيارة لها لكربلاء متعلقة بمقام «التل الزينبي»، وكان والدها يضع في يدها بعض النقود ويرفعها لتضعها في الصندوق.
وانتقل التعلق إلى مقامها في دمشق، بعد أن أغلقت العراق أبوابها، واتجهت القلوب لدمشق الشام، فقد كانت تعشق الجلوس قبال القبر، تقول: كان الاستماع لسيرتها وقصصها يمنحني عنفوان وقوة.
هذا غير العطاء الكبير المتواصل الذي كانت تمنحنا إياه، وقد حدثني أبي وأخبرتني أمي الكثير.
وما خرجتُ من هذه الدائرة، بل كان يصيبني ما أصابهم، ويشملني عطفها كما شملهم، بل كانت تصيب بخيرها من كان يقصدها بلساني، فكم حاجة قضيت بفضل الله عندما سألته بحقها في لحظات أداء البرنامج.
كانت أنوارها البهية تحيط بالمكان فتكسوه من جلالها وهيبتها ثياب السمو الروحي، وتنزل البركة فتزدهر الروح، وتنتعش الجوارح، وتغرق في بحر العشق والتجلي.
ذات مساء وأنا أستعد لدخول المسرح همست في أذني صديقتي «رقية»: ”ادعي لي.. ابغي ولد“ وفي العام التالي كان ولدها بين يدي يمثل دور عبدالله الرضيع.
لم أطرق بابها إلا ناولتني من خيرها وبركتها ما يشفي الصدور، ويسعد القلوب، وكانت صديقاتي يتحين الفرصة، وينلن من صندوق الهدايا مبتغاهن، وكيف ترد ابنة الأكرمين سائلًا وقف ببابها راجيًا.
حتى أنا نالني من مطر جودها نصيب، وفتحت لي أبواب ما كانت تفتح لولاها، وربما جادت بلا سؤال، فقد مر بذهني أن أطلب منها عملًا يحميني ويغنيني، لكن الحياء منعني أن أمد يدي.
في مساء اليوم التالي اتصل بي أخي وقال:
- دعاء.. صديقي يعمل في شركة وحدثني أنهم يحتاجون موظفة بمواصفاتك.
- بكيت وأنا أهمس: مدد يا زينب
- ماذا؟
- إنها هدية مولاتي السيدة زينب.
هذا العام وقعُ السؤال مختلفًا، فالضعف الذي أعيشه يجهدني، والكآبة التي أمرّ بها تضعضع ثقتي بنفسي، فيضيق صدري، وكأنني أحمل جبلًا على ظهري.
فبسبب وباء كورونا فقدنا الأحبة والأصدقاء، وتجرعنا غصص الفراق، وكنت كل ليلة أبكي بصمت على فقد أبي، وأتنفس بصعوبة لمرارة فراقه، وأبحث عن النوم الهارب لساعات، حتى يخيّل لي أنني أبحث عن إبرة في صحراء.
فجاء الجواب سريعًا بعد انتهاء العمل، لقد أحسست بأن سيدتي العقيلة زينب تقف بجانبي، فأنا اليوم أحتاجها أكثر من أي وقت مضى، وقد مسحت بيدها على قلبي، ورفعتني إلى مقام الفرح والنجاح.