جمالية فلسفة الرمز فى المجموعة القصصية «مارية وربع من الدائرة»
وصف الإنسان بأنه الوحيد القادر على ابتكار الرموز واستخدامها فى اللغة، كما وصفتها الفيلسوفة الرمزية سوزان لانجر، بأنها رمزية استدلالية ليس فى مقدورها أن تعبر عن الوجدان أو الحياة الباطنية، وعلى هذا يكون الفن هو السبيل الوحيد للتعبير عما لا يمكن التعبير عنه بواسطة اللغة. الفن إذن رمز والعمل الفنى صورة رمزية، ويتميز العمل الفنى الجيد بالوحدة العضوية، وعلى هذا فهو ليس عناصر حسية مرتبة بطريقة ما.
ذلك أن الرمز الذى ينبثق من خلال هذه العناصر رمز مبدع وليس تنظيما لهذه المواد المعطاة، العمل الفنى هو رمز مجازى وكل إسقاط رمزى هو تحول درامى بشكل ما، يقول الأديب أوسكار وايلد: لم أر فى حياتى رجلا ينظر مثل هذه النظرة التواقة إلى هذه الخيمة الصغيرة الزرقاء التى يسميها المسجون السماء، وإذا كانت القصة القصيرة جدا تعبر عن الحياة بكل ما فيها من دراما كما قال أرسطو: إن الفن هو محاكاة لدراما الحياة.
فكل قصة هى نسيج من أحداث واقعية وأشخاص وأماكن ومشاعر وصراع وحب وكراهية وشغف وشوق وملل، مجموعة الكاتب السعودى حسن البطران الموسومة: مارية وربع من الدائرة، هى محاكاة لدراما الحياة بطلتها مارية، تحكى لنا ما يدور داخلها من صراع على لسان الرجل، المجموعة القصصية هى جدلية العلاقة بين الرجل والمرأة، تميزت بشكل كبير بالتكثيف الدلالى، فأشارت إلى العلاقات العابرة.
والعلاقات الناتجة عن الضعف الإنسانى، وعلاقات يحيطها المرض النفسى، كذلك حملت المجموعة مشاعر الرغبة فى التغيير والثورة على البالى من المعتقدات، كذلك أبدع الكاتب حسن البطران فى مجموعته فى وصف أمراض العلاقات الإنسانية بين الرجل والمرأة مثل الخيانة، وعدم التفاهم والشعور بالاغتراب، وطرح الكاتب كل ما يدور فى عقل وقلب كل مارية من طموح وأحلام وأوجاع مع اختلاف البيئة والزمان.
فمع كل مارية نجد ظلالا لنساء أخريات فى ثلاثة أرباع الدائرة، لقد نجح الكاتب فى اختيار موضوع المجموعة القصصية وهو المرأة، رمز الحياة، القمر الذى يعكس ضوء الرجل، فلو كان الرجال يبنون المنازل، فالمرأة عماد البيوت، هى السكن والسكينة، والراحة والأمان، لقد استطاعت المرأة عبر التاريخ أن تكون صرحا ومنارة، فكانت الأم والحبيبة والشاعرة والملكة.
المرأة هى أعظم جوهرة انتزعت من تاج الطبيعية لتكون زينة الرجل، بل زينة الحياة، لقد أكد الأديب حسن البطران فى مجموعته القصصية مارية وربع من الدائرة ما قاله الفنان المبدع بيكاسو فى وصف المرأة بأنها خليط رائع من الأشكال والألوان، كذلك عبر عنها البطران بوصفها العظيمة المقهورة والمسوفة، والحبيبة، والمرغوبة، واللامبالية، وغير المفهومة.
وهى المطحونة بين سنديان العادات والتقاليد البالية وبين رغباتها ومشاعرها وطموحاتها، فهى خليط من كل شىء كما وصفها الأديب بليزاك بأنها خليط بين الملائكة والبشر، هى بداية الرجل وأيضا نهايته، لقد عرض البطران أيضا لكل ما يرغبه الرجل بالمرأة، وكذلك للعلاقات الشائكة فى الحياة بينهما. لقد نجح البطران فى مجموعته فى خلق استراتيجية إعلامية ناجحة للتعبير عن قضايا المرأة بفاعلية، من خلال قصصه الرمزية التى تعبر عن الكثير من المسكوت عنه.
خاصة فى البيئة العربية، وبث الكاتب المبدع رسالة هامة، هى أننا فى حاجة ماسة للفن لتغيير الكثير من ثقافة المجتمعات وإلقاء الضوء على قضايا شائكة تخص المرأة بشكل رمزى، المرأة شجرة الحياة التى يتفرع عنها الجميع، المرأة هى تحفة الكون الرائعة وزهر الربيع وروح الحياة.
لقد استبطن حسن البطران كل ما تشعر به مارية فى ربع من الدائرة، هذا الجزء الصغير البسيط الضعيف الذى لا تكتمل الدائرة بدونه ولا تكتمل الحياة إلا بها، اعتمد الكاتب فى مجموعته على استخدام الرمز وعلى التلميح لا التصريح، ومتابعة المؤشرات الدالة على المعنى، وفتح باب التأويل للقارئ على مصرعيه ليشاركه فى رسم نهاية القصة، حتى إن الرمز عند الكاتب يحمل أكثر من معنى.
ففى قصته «قرار كله ظلمه» يقول: «يطير بعيدا عن غابات النخيل، يريد أن يغرد هناك فى الفضاء، سئل لماذا تهرب بعيدا عنا؟!، لم يجبهم وقرر أن يطير ويطير إلى مسافات أكبر!!، حينما سمعت أنثاه حلقت هى الأخرى بعيدا فى الاتجاه المعاكس، بقى عشهما وفراخهما بين البعيدين.. غراب طائش استحوذ على العش وفراخه»، والقصة هى إسقاط على مدلول الوطن الذى قد يكون امرأة أو بيتا أو أرضا أو كل غال على الإنسان يهمله أصحابه فيسهل اغتصابه.
كذلك أبدع الكاتب فى تصوير موت العلاقة بين الرجل والمرأة بموت التسامح والتفاهم والتقارب الروحى فى قصته، «نتف من جلد» وصفها بأنها مسوفة ورغم ذلك هى لا مبالية بوصفه معقبة عليه «لا تلمنى»، لمس أيضا الكاتب وتر العادات والتقاليد البالية التى تحاصر المرأة وتفرض عليها نوعية من السلوك فى الحياة فبقصته «خمار وثقوب»: «أرادت أن تخمد نارها، لبست خمارا ورثته عن جدتها السادسة، أحمر وجه أختها.
كونها تذكرت ما سمعته عن جدتها الثالثة». هو صراع بين الرغبة والموروث بين مشاعر وتقاليد، وقيود الأمر أيضا فى قصته «وحل» والتى اختار عنوانها نكرة للتعميم والتحقير، وصف فيها الكاتب الصراع بين رغبات الجسد وطهارة الروح ووقوع الإنسان فى وحل الرغبات نتيجة الضعف الإنسانى، الأمر الذى أكده الفيلسوف اليونانى أرسطو، حين أكد على أننا فى التراجيديا نشعر تجاه البطل بالشفقة والخوف لأن فعله كان نتيجة الضعف الإنسانى.
لقد أبدع الكاتب فى مجموعته القصصية حين وصف أمراضا تقتل الحب وتقطع أواصر العلاقة بين الرجل والمرأة، وأهمها الخيانة فى قصته «قماش أبيض بطانته سوداء» وهى رمز للشريك حسن المظهر سيئ الطباع، لقد كان الكاتب فى سرده حريصا على اتساع دائرة التأويل، كما يفتح الباب للمتلقى فى نسج النهاية للقصة بمخيلته.
ففى «قصته خيط رفيع»: بطلها التلميذ رائد غير المتفوق فى أداء امتحانه ورغم ذلك يخبره المعلم بأنه فوق الامتياز، تميزت المجموعة القصصية لحسن البطران مارية وربع من الدائرة بالمفارقة والتكثيف والترميز والديناميكية.
لقد أبدع الكاتب فى توظيف مستجدات المجتمع العربى من قضايا حين عبر عن أثر مشكلة فيروس كورونا على الإنسان، وما نتج عنها من خوف وقلق من هذا العدو اللعين غير المرئى، ووظف الحدث من خلال قصته الهجرة العكسية، التى يهرب الإنسان فيها مما جنته يداه من تقدم إلى بيئته الأولى النقية فى القرى، كذلك عرض الكاتب لقضية كون الفن معبرا عن الانفعالات فى قصصه «شجرة مقطوعة» و«غبار مقدس» ومن يكمل تلوين اللوحة.
كلها عكست مشاعر المرأة بين الرغبة والشعور بذاتها وبين قيود العادات والتقاليد، وعرض الكاتب لأوجاع المرأة فى البيئة العربية من خلال قضية «اغتيال الطفولة» والزواج المبكر للقاصرات فى قصته «فأر يحوم فى المزرعة» ووصف فيها كيف تغتال الأنوثة.
لقد أكد الكاتب على ماهية الفن الحقيقية من خلال أعماله، وهى أن الفن لغة تعبيرية رمزية هدفه استعادة الوحدة المفقودة فى الأشياء، وهو ما صرح به الفيلسوف شيلر حينما تساءل: أى نوع من الظواهر ذلك الذى يقرب الوحش إلى الإنسانية؟، إنه الابتهاج داخل الظواهر والسعى نحو الزخرفة.
فإذا تولد الجمال تولدت اللذة والشعور بالحياة، وبهذا فالفن يمثل نوعا من الفرح، فعندما تتمزق الروح وينفصل العمل عن المتعة والذات عن الموضوع تكون هناك حاجة إلى الجمال وإلى خلق النفس الجميلة بإيجاد بُعد جمالى للذات الإنسانية يكون وسيلة إنقاذ لهذا الجمال وهذا هو دور الفن.