أراجيز الطف 35
تحمل أرجوزة الشهيد علي الأكبر بن الحسين في يوم عاشوراء، الشجاعة بأسمى صورها، من خلال الاعتزاز بالذات، والتعريف بالنفس، والنسب الرفيع، فضلا عن الرفض الكامل للاستسلام، والإقرار لحكم عبيد الله بن زياد، والاستعداد للشهادة على الخضوع، عبر استخدام جميع الأسلحة للدفاع عن المبادئ، التي يحملها الإمام الحسين .
يبدأ الشهيد علي الأكبر بن الحسين، على غرار الكثير من شهداء كربلاء، بالتعريف بالنفس بمجرد النزول إلى ساحة القتال، لإزالة الفضول لدى الطرف المقابل، بخصوص هوية البطل المتحفز للقتال، خصوصا وأن الشهيد علي الأكبر ما يزال في ريعان الشباب، مما يترك الكثير من التساؤلات الحائرة، بخصوص هوية المقاتل، حيث يركز على ذكر اسمه بشكل صريح، عبر الانتساب إلى والده الإمام الحسين ، فالتعريف بالذات عملية الأساسية، للافتخار بالنفس قبالة الجيش الأموي، لاسيما وأن الشأن الرفيع للعترة الطاهرة شرف، لا يدانيه أحد على الإطلاق، فهذا الشرف يرفع صاحبه على الدوام، بالإضافة لذلك، فإن الشجاعة الكبيرة التي تمتاز بها عشيرة بن هاشم، ليست محل خلاف على الإطلاق، فالجميع يعرف البطولات التي يسطرها، أبناء بني هاشم في جميع النزالات، التي يشتركون فيها، حيث يقول ”أنَا عَليّ بن الحسين بن علي“.
يواصل الشهيد علي الأكبر بن الحسين، الافتخار بالانتساب إلى سيد البشرية ﷺ، من خلال التركيز على صيغة الجميع ”نحن“، التي تشمل بيت العترة الطاهرة، فهي الأَحقِّ والأَجدرِ والأَقرب إلى رسول الرحمة ﷺ، فضلا عن ضم العترة الطاهرة إلى بيت الله الحرام، من حيث القرب من الرسول الأكرم ﷺ، إذ لا يوجد انفكاك بين العترة وبيت الله الحرام، فيما يتعلق بالدعوة الإسلامية، فالعترة الطاهرة تمثل الامتداد الطبيعي للرسول الأكرم ﷺ، كما أن الكعبة تمثل مصداق العبودية المطلقة لله، وبالتالي فإن العترة الطاهرة والكعبة المشرفة، يشتركان في هدف واحد وهو إعلاء شأن الدين الحنيف، فالشهيد علي الأكبر يحاول عبر الارتجاز إزالة الغشاوة، التي أعمت القلوب قبل العيون، والتي دفعت الجيش الأموي الجرار، للتحفز على قتل العترة الطاهرة، كونها تمثل الامتداد الطبيعي للرسول ﷺ، حيث يعيب على جيش عبيد الله بن زياد، الإقدام على سفك دم العترة الطاهرة، بالرغم من الادعاء بالولاء للإسلام، والالتزام بالدين المحمدي، فهو يقول ”نحنُ وبيت الله أولَى بِالنّبي“
يركز الشهيد علي الأكبر بن الحسين، في الشطر الأول من البيت الثاني، من الأرجوزة، على الإصرار على المبادئ التي أطلقها سيد الشهداء ، وعدم المساومة على الثوابت على الإطلاق، فالشهادة تصبح رخيصة الثمن، مقابل الوقوف أمام الانحراف والاعوجاج، الذي يقوده عبيد الله بن زياد، فالإمام الحسين ينطلق من نهضته المباركة من منطلقات، وأبرزها ”طلب الإصلاح في أمة جدي“، ومن ثم فإن الدعاية الأموية الساعية إلى قلب الحقائق رأسا على عقب، ساهمت في تشويه الأمور على الكثير من أبناء الأمة الإسلامية، ولكنها غير قادرة على خلط الأوراق لدى أصحاب البصائر، حيث يستخدم الشهيد علي الأكبر صيغة القسم ”تالله“، في السير حتى النهاية بالتمسك بالمبادئ، الذي أطلقها سيد الشهداء ، خصوصا أن الاستسلام يعني الخضوع تحت حكم ”ابن الدعي“، وهو من الأمور المستحيلة على الإطلاق، فهذه النوعية من الشخصيات لا تستحق الاحترام، فما بالك بالموافقة على تسليمها مقاليد الحكم، وبالتالي فإن القتال يمثل الخيار الأفضل للفوز في الدنيا والآخرة، حيث يقول ”تالله لا يَحكُمُ فينا ابنُ الدّعي“.
يبرز الشهيد علي الأكبر، في عجز البيت الثاني من الأرجوزة، مستوى الإصرار على مواصلة القتال، وحصد الرؤوس في ساحة المعركة، حيث يستخدم أدوات الحرب في الأرجوزة، من أجل إزالة الآمال والأحلام لدى الجيش الأموي، بالتفكير في الاستسلام، فالكلمات التي يحملها الشطر الثاني من البيت، تكشف القدرة على القتال حتى الرمق الأخير، من خلال الاستفادة من كلمة ”الطعن“، التي تمثل الخوض في ساحة القتال، وعدم التردد في نزال الأبطال، لاسيما وأنه يمتلك من الشجاعة والطاقة، التي تؤهله إلى الانتصار على الجميع، كما أن الشهيد علي الأكبر يستخدم مفردة ”ينثني“ للدلالة على الإمساك بالرمح، دون التفكير في تركه على الإطلاق، فهو سيبقى واقفا حتى ينثني بسبب كثرة الطعن في أجساد الأعداء، ومن ثم فإن العجز يكشف الإيمان الكامل بعدالة القضية التي يحملها، والقدرة على الدفاع عن تلك المبادئ، حيث تعتبر الروح رخيصة في سبيل الانتصار للقيم الثابتة، التي جسدتها معركة كربلاء، حيث يقول ”أطعَنكم بالرُمحِ حتىَ ينثنيْ“.
بينما ينتقل الشهيد علي الأكبر في الشطر الأول، من البيت الثالث بالأرجوزة، إلى الغاية من استخدام السيف، والنزول إلى ساحة المعركة، في مواجهة الجيش الأموي الجرار، حيث يكشف عن السبب الحقيقي وراء التضحية بالذات، فهو لا ينطلق من غايات وأهداف دنيوية، بقدر ما يسعى إلى حماية الدين، عبر الدفاع عن سبط المصطفي ، الذي يمثل الامتداد الطبيعي للرسالة المحمدية، وبالتالي فإن الضرب بالسيف لا يستهدف إراقة الدماء دون وجه حق، أو نتيجة أحقاد شخصية تجاه الجيش الأموي، بقدر ما يستخدم السيف لأهداف سامية، وغايات كبيرة، فالسلاح لا يشهر بوجه الأبرياء على الإطلاق، وإنما يستخدم في وجه الأعداء والمعتدين، حيث يستخدم الشهيد المفردات الدقيقة لإيصال الهدف الحقيقي، من وراء طلب النزال والرغبة الشديدة على الشهادة، فهو لا ينطلق من أمور ذاتية أو أهداف دنيوية على الإطلاق، وإنما يتمحور الهدف في ”أضرِبُ بالسّيفِ أحامِي عَن أبي“.
يختتم الشهيد علي الأكبر أرجوزته، التي ارتجلها في يوم عاشوراء، بمفردات تفيض منها كافة معاني الشجاعة، والاعتزاز بالنفس، فهو يستخدم مفردة ”الضرب“ للاستفادة منها في إظهار الشجاعة الكبيرة، التي يتحلى بها، كونه سليل عشيرة ذات شأن كبير في الشرف، والنسب، وكذلك الشجاعة، ومن ثم فإن الشهيد يستعير المفردات القوية، التي تسلل في النفوس بشكل مباشر، خصوصا وأنه استخدام ”غلام هاشمي علوي“ يدخل في قلب الطرف المقابل الرهبة، والخوف على مصيره، لاسيما وأن الوقوف لمنازلة أبطال بني هاشم مخاطرة، ومغامرة محسومة النتائج، فالكثير من الأبطال يخشون مواجهة أبطال بني هاشم في المعارك، وذلك هربا من الموت، حيث يقول في العجز الأخير من البيت الثالث من الأرجوزة، ”ضَربَ غُلامٍ هَاشِميٍّ عَلوي“.
وتنقل كتب السيرة أن علي الأكبر تقدّم، وكان على فرس له يُدعى الجناح، فاستأذن أباه في القتال فأذن له، ثمّ نظر إليه نظرة آيِسٍ منه، وأرخى عينيه، فبكى ثمّ قال: «اللّهُمّ كُنْ أنتَ الشهيد عَليهم، فَقد بَرَز إليهم غُلامٌ أشبهُ النّاس خَلقاً وخُلقاً ومَنطِقاً برسولك»، حيث برز نحو المعركة شاهراً سيفه قائلاً:
أنَا عَليّ بن الحسين بن علي
نحنُ وبيت الله أولَى بِالنّبي
تالله لا يَحكُمُ فينا ابنُ الدّعي
أطعَنكم بالرُمحِ حتىَ ينثنيْ
أضرِبُ بالسّيفِ أحامِي عَن أبي
ضَربَ غُلامٍ هَاشِميٍّ عَلوي