آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 3:01 م

عاشوراء السّعودية... تهذيب الخطابِ وقوننةُ !

حسن المصطفى * صحيفة النهار العربي

رغم أنني كنت خارج السعودية أثناء موسم عاشوراء هذا العام، إلا أنني تابعت عبر المنصات المختلفة العديد من الأنشطة التي قام بها المواطنون في المنطقة الشرقية عموماً، ومحافظة القطيف خصوصاً، سواء الخطاب الحسيني المنبري، أم المحاضرات، ومراسم العزاء، كما حملات التبرع بالدم.

كان الحضور حاشداً، من فئات عمرية مختلفة، وسط تعاون بين المشرفين على المآتم ومواكب العزاء من جهة، والجهات الحكومية من جهة أخرى، الأمر الذي يشير إلى وعي متزايد بين المواطنين، بأهمية أن تكون ”عاشوراء“ مساحة تمارسُ فيها الشعائر بحرية، من دون انفلاتٍ أو إخلالٍ بالأمن والسلم الاجتماعي.

هذا الوعي الذي يبرزُ لدى شرائح واسعة جداً من المواطنين، هو نتاج التغيرات الكبرى التي تمر بها السعودية، وكيف أن ”رؤية المملكة 2030“ عملت على جعل الثقافة العامة ذات حس وطني ومسؤولية عالية، بحيث لم يعد المواطن قلقاً على هويته الفرعية، بل يجد فيها رافداً تتشكل من خلاله الهوية الجمعية الأوسع، كون تجاور الثقافات والهويات والحفاظ على تنوعها ضمن إطار ”المواطنة العادلة“ دفعَ بالخطابات الطائفية والأقلوية والعنصرية إلى التراجع، وخفف من تأثيرها السلبي، ما حدا بالمواطنين في موسم ”عاشوراء“ إلى ممارسة شعائرهم بهدوء تام، وانسيابية، من دون حدوث أي إشكالات كبيرة تؤثر على سكينة الموسم وروحانيته.

في هذا الصدد، قامت ”دائرة الأوقاف والمواريث“ في محافظة القطيف، بعمل مسبق قبل شهر محرم، من أجل تسجيل الأماكن التي تحيي ذكرى الإمام الحسين بن علي، من أجل تنظيم المجال الديني، وأيضاً منحه الصفة القانونية المستدامة، فلا يستطيع أحد خارج سلطة ”القانون“ أن يمنع مواطناً من حضور مأتم أو عزاء أو سواهما من الفعاليات المرخصة نظامياً، وهو أمر يتماشى مع السياق العام في السعودية، التي تسعى الحكومة فيها إلى مزيد من ”سيادة القانون“ و”الحوكمة“ والعمل المؤسساتي، وبالتالي الحد من الاجتهادات الفردية التي قد تتأثر أحياناً بالمزاج الشخصي للمسؤول أو انحيازاته المسبقة ثقافياً واجتماعياً.

”إن العزاء الحسيني اليوم هو حق مشروع، يقام وفق القانون في السعودية“، يقول لي صديق، مضيفاً أن ”عملية التنظيم هذه مهمة جداً، ويجب أن يتنبه الناس لجانبها الإيجابي، ولا يلتفتون لبعض الثغرات البسيطة التي هي طبيعية جداً، لم تؤثر على الأجواء الإيجابية لموسم عاشوراء“.

هذه ”القوننة“ يعمل عليها القائمون على ”دائرة الأوقاف والمواريث“ في محافظة القطيف، بالتعاون مع ”المحافظة“ و”إمارة المنطقة الشرقية“ والجهات المدنية والأمنية المعنية، من خلال لجان مشتركة، تطورت آلية تنظيمها، عبر السنوات، وتراكم الخبرات، وأيضاً تعاون وتفهم المواطنين وأصحاب المآتم والمساجد المستفيدين من الخدمات والأذونات التي تمنحها ”الدائرة“.

بالموازاة مع ذلك، لوحظ هذا العام، حضور أكبر للقضايا الوطنية العامة في خطاب عدد من الدعاة وعلماء الدين. وهو حضور كان دائماً مقدماً لدى عدد من الشخصيات، لكن هذا العام، زاد عدد المهتمين بالشأن الوطني السعودي العام.

عدد من الدعاة تحدثوا عن الحملة الوطنية لمكافحة المخدرات، مشيدين بدور الأجهزة الحكومية، وداعين الجمهور العام إلى التعاون مع الجهات الأمنية في هذا الصدد.

آخرون أشادوا بالتقدم الذي تشهده المرأة السعودية، والحضور المتزايد لها في سوق العمل، وأيضاً تسلمها عدداً من المناصب القيادية.

إضافة لذلك، فإن ”مواجهة التطرف والغلو سمة وعنوان للموسم العاشورائي هذا العام“ في محافظة القطيف، كما يقول صديق مراقب مراقبةً لصيقة لمجريات الحوادث، معتبراً أن ذلك ”نتيجة الشعور بالاطمئنان والاستقرار الاجتماعي الداخلي الذي نعيشه“، مضيفاً: ”كلما شعروا بالاطمئنان أكثر، اتجهوا نحو تعزيز القيم الوطنية ومواجهة التطرف الداخلي، لأن الشعور بعدم الاطمئنان هو سبب رئيسي في ترك الأصوات المتطرفة تتسيد الساحة“.

وجهة النظر أعلاه، جاءت تعليقاً على ارتفاع عدد من الأصوات لشخصيات علمائية بارزة في القطيف، انتقدت بعض مظاهر ”الغلو“ لدى عدد من المنشدين الدينيين، وإضفائهم بعضَ الصفات والمعاجز الخارقة على السيرة الحسينية، وهو الأمر الذي حذر منه هؤلاء العلماء، وشددوا على أهمية عدم المبالغة، والوقوف ملياً من أجل تنقية الخطاب العاشورائي من المبالغات غير الصحيحة!

مثقف بحريني، زار القطيف إبانَ ”عشرة محرم“، أرسل إليَّ قائلاً: ”الأجواء جميلة جداً، أدهشني حسن التنظيم ومستوى النظافة فى المكانين اللذين زرتهما“، مضيفاً: ”قلت لإخوتي: إنى أرى القيادات الدينية السعودية، أكثر اتزاناً واعتدالاً وبعداً من التزمت، مقارنة بالبحرين“، متمنياً أن ”يشيع خطابهم المعتدل كل المنطقة، لكي يقل أثر التحجر الذي جاء أساساً من العراق“.

هناك الكثير من العمل سيحتاج القائمون على تنظيم المجال الديني، ومأسسته، إلى القيام به خلال الأشهر المقبلة، إنما الثقافة المرتفعة والوعي المتزايد لدى المواطنين، وخصوصاً الجيل الجديد، ونهوض عدد من المثقفين وعلماء الدين بمسؤوليتهم الأخلاقية والوطنية، والروح العالية والأجواء الإصلاحية والتنويرية التي أشاعتها ”رؤية المملكة 2030“، وتعاون الجهات الحكومية المعنية وتطور أدائها، كل ذلك، سيجعل من ”الإصلاح الديني“ في السعودية نموذجاً يقتدى به في الشرق الأوسط، لأنه إصلاح عابر للطوائف، كاره للعنف والتمذهب والعصبيات، إصلاح يسعى إلى ترسيخ احترام الإنسان وحفظ سلمه وكرامته.