المكان و”التأمكن“ لدى السيد جعفر الحلي.. قراءة ثقافية
”كل كائن، كل شيء، كل موقع يصير كونيًا حين يدخل النص“ [1]
يخترق المكان النص الشعري، اختراقًا واقعيُا وتخيّلياً.. منذ الأطلال ورثاء المدن المهدّمة، إلى آخر احتفاء بالمكان في الشعر المعاصر.
يتعدد المكان بتعدد دلالاته. يتشظى ويلتحم، يتشتت ويجتمع، وينأى ويدنو في النص الشعري.
يتموضع نفسيًا ويأخذ حيّزه الوجداني، التأملي والاستعاري.
يشير إلى ذلك الكاتب المغربي رشيد اليحياوي بقوله:
”يتسم المكان في الخطاب الشعري بخاصيات يتميز بواسطتها الشعر من أنواع وأنماط القول الأخرى. في مقدمة تلك الخصائص أن المكان الشعري من جهة أنواعه يتحول إلى مكان وإن لم يكن كذلك في الأصل وهو ما ندعوه بقابلية «التأمكن». وبهذه الخاصية تتداخل في النص الأماكن «المتأمكنة» أصلا بنظيرتها المتأمكنة شعريا. مما يجعل النص الواحد فضاء لتعدد الأماكن التي تتسم في تعددها بخاصية ثانية هي قابليتها للتشظي حيث يتحول المكان الواحد إلى كثرة، وهذا من جهة أنواع المكان الشعري.“ [2]
في قصيدته ”وجه الصباح“ يمنح السيد جعفر الحلي قصيدته التشظيات الدلالية للمكان. بين التأمكن والمكان، بين الاستعارة والحقيقة… بين التخيلي والواقعي.
يبدأ الحلّي نصّه بتجليات القلق والأرق… اللذان يتموضعان زمانيًا - الليل - ومكانيًا - المضجع -.
مفتتح يستدعي الجو النفسي للشاعر ويمنح النص مكانه القلِق والمضطرب «المضجع»، في ثنائيات متضادة بين الذات والآخر:
الصباح - مظلم
ربيع - محرم
ساهر - رقاد
وَجه الصَباح عليَّ لَيلٌ مُظلمُ
وَربيع أَيامي عَليَّ محرَّمُ
وَاللَيل يَشهد لي بِأَني ساهر
مُذ طابَ لِلناس الرقادُ وَهوّموا
قَلقاً تَقلِّبني الهُموم بمضجعي
وَيَغور فكري في الزَمان وَيُتهم
ينتقل الحلّي إلى المكان في تجليات التناص مع الآية الكريمة ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۚ﴾ الحشر «21»
قرحة الحزن مُعادلًا فنّيا للقرآن الكريم، ويلملم - الجبل - معادلًا موضوعيا للجبل في الآية الكريمة الذي ينهدّ من خشية الله، ويلملم يسيخ من فرط الحزن.
بي قَرحةٌ لَو أَنَّها بيَلملمٍ
نَسفت جَوانبه وَساخَ يَلملمُ
في أبيات لاحقة يشير الحلّي إلى اللامكان كمكان - التشرّد، وتقاذف الفضاء الأعظم - وهو ما أشار إليه اليحياوي بقابلية التأمكن.
المكان الشعري - التشرد واللامأوى - متأمكنان في صورتهما التخيّلية.
مثل اِبن فاطمةٍ يَبيت مُشَرّداً
وَيَزيدُ في لَذاته متنعِّمُ
وَيَضيِّق الدُنيا عَلى اِبن محمدٍ
حَتّى تَقاذفه الفَضاء الأَعظَمُ
—
وصولًا إلى حالة الحيرة اللامكانية:
لَم يَدر أَينَ يريح بُدنَ ركابه
فَكأنَّما المَأوى عَلَيهِ محرَّمُ
يواصل السيّد الحلي أمكنة نصّه من خلال النزوح والجلاء عن المكان «مكة والمدينة - الحطيم وزمزم»..
خَرج الحُسينُ مِن المَدينة خائِفاً
كَخُروج مُوسى خائِفاً يَتكتَّمُ
وَقَد اِنجَلى عَن مَكة وَهوَ اِبنُها
وَبَهِ تَشرَّفت الحَطيمُ وَزَمزَمُ
”كلُّ مكان لا يؤنّث لا يُعوّل عليه“ هكذا يُشير ابن عربي إلى المكان حين يتحوّل إلى مكانة. وهذا ما يوجّه إليه الحلي بالإشارة إلى المكانة الهاشمية وللأفضلية النسبية لأهل بيت الحسين - خير عصابة - والتأكيد على مرجعيتها النسبية مضرية.
حفته خَيرُ عصابةٍ مضريةٍ
كَالبَدر حينَ تَحف فيهِ الأَنجُمُ
المكان بوصفه هوية لها دلالة الانتماء الجغرافي والفكري.
الحجاز منطلق الحركة الإسلامية وهنا استدعاء صريح للهوية الإسلامية التي ينطلق منها الحسين في حركته الإصلاحية.
ركبٌ حجازيون بَينَ رحالهم
الاتجاه كمكان نزوح «نجد - تهامة»
تَسري المنايا أنجدوا أَو أتهموا
المكان لدى جعفر الحلي يحضر أيضًا في أداة الحرب ونسبتها إلى أماكن صنعها.
السيوف الهندية - الرماح الخطيّة
متقلدين صَوارماً هنديةً
مِن عَزمهم طُبعت فَلَيسَ تَكهَّمُ
وَيَقوّمون عَوالياً خطيةً
تَتَقاعد الأَبطال حينَ تُقوَّمُ
نَزَلوا بِحومة كَربلا فَتطلَّبت
مِنهُم عَوائدَها الطُيورُ الحُوَّمُ
صورة للمعركة محورها المكان الحركي: اليمين - الشمال - الوسط - الكرّ - - الفرّ - التقدّم
قَلب اليَمين عَلى الشَمال وَغاص في ال
لأوساط يَحصد في الرُؤوس وَيَحطمُ
ما كرَّ ذو بَأس لَهُ متقدِّماً
إِلا وَفَرَّ وَرَأسُهُ المتقدِّمُ
وَلَهُ إلى الإِقدام سُرعةُ هاربٍ
فَكأنَّما هوَ بِالتقدُّم يَسلمُ
يذهب الحلّي إلى البطل الهاشمي كمكان آمن من الفزع والخوف، وصدره ملاذ لنساء وأطفال الحسين .
أَوَ تَشتَكي العَطشَ الفَواطمُ عِندَه
وَبصدر صعدته الفراتُ المُفعمُ
المصرع - الخيام
مكانان يتقاسمهما الحدث الفجائعي، ويتقاسمهما بناء النص وموضوعه.
فَمَشى لمصرعه الحسين وَطَرفُه
بَينَ الخِيام وَبَينه متقسِّمُ
من بادية وصحراء كربلاء إلى البوادي، يمتد المكان ويعبر عبور مكاني وزماني:
نادى وَقَد مَلأ البَوادي صَيحةً
صمُّ الصُخور لِهَولِها تَتَأَلَّم.
يبني جعفر الحلي نصه على صورة المكان الشعري باستدعاءات التاريخ والجغرافيا والهوية والانتماء، ويكثّفه بإشارات الاتجاه والوجهة والنسب والأداة الحربية، ويعيد تجلياته في استعارات الملاذ، ويقسّمه في الحدث الفجائعي والحركي. ويعيش فضاءاته الحركية داخل النص وخارجه.
اللامكان لدى الحلّي يتأمكن، ويتحوّل إلى مكان شعري، له امتداداته في الخيال الشعري التي تعيد صياغة الحدث الواقعي والتاريخي في فضاءات المخيّلة، وهي تحرر المكان وتمنحه حركته المتدفقة في النص.