آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 4:07 م

حديثٌ... في ذكرى شهيد كربلاء (ع)

أشواق آل عبد الباقي

قال الله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ .

نمرّ هذه الأيام بذكرى ليست كأيّ ذكرى، أبطالها ليسوا كأيّ أحد من الخلق، وأحداثُها ليست كبقيّة الأحداث، هي ذكرى مُوجعة، مُؤلمة وشجيّة، إنها ذكرى استشهاد الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب وأهل بيته وأصحابه عليهم جميعا أفضل الصلاة والسلام.

الإمام الحسين.... الإمام الشهيد.... المظلوم.... الغريب... من لا ناصر له ينصره مما نزل به، كلها مُسمّيات لسيّد الشهداء إمامنا الحسين بن علي ، إنّ إحياءنا لذكراه إنّما هي إحياء لمبادئ وقيم عظيمة «للصّبر، للتّضحية، للإيثار، للشّجاعة، للعزيمة، للإيمان القويّ الراسخ....» هي في المُجمل ليست إلاّ إحياء لـ «مكارم الأخلاق».

هو الإمام المُؤمن الصّالح التّقي النقيّ الطّيّب الطّاهر، لم يُحاربه أعداؤه - «من قتلوه وأمروا بقتله وأعانوا على ذلك» - من أجل إحياء دين الإسلام أو رفع رايته عالية خفّاقة إلى قيام السّاعة، ولا من أجل ثواب الآخرة ونعيمها، وحين أقدموا على ذلك ليس لأنّ الحق معهم، ولا لأنّهم من خيرة وصالح الناس، وإنما قتلوه من أجل أهداف دنيوية ومطامع بشريّة تمثّلت في حب الزّعامة والسلطة، وحبّ الجاه والوجاهة، بيد أن دافعهم الحقيقي والأهم من كل هذا، هو ذلك الحقد الدفين الذي ملأ قلوبهم على أهل بيت النّبوّة ومعدن الرّسالة، ذلك الغلّ قد أعمى بصيرتهم فأنساهم أنّ الإمام المُستهدف من قبلهم هو سيّد شباب أهل الجنة وابن إمام المتّقين وأمير المُؤمنين الإمام «عليّ بن أبي طالب» ، وأنّه حفيد نبي الرّحمة وخاتم الأنبياء والمرسلين سيّد الخلق «محمّد» صلى الله عليه وعلى آله أجمعين.

لقد تجرّأت تلك العصابة المُجرمة وبكل ما فيها من إجرام ومن وحشيّة وذبحت الإمام ، وادّعت هي وشركاؤها ومن يقف وراءها - فيما بعد - بأنّ لها كلّ الحق في قتله وفيما ارتكبته من وحشية مروّعة على أرض كربلاء الطّاهرة، إنّ هؤلاء هم ممّن يتمسّكون بمُعتقداتهم الباطلة وآراءهم الفاسدة، وقد اعتقدوا بأنّ ما ارتكبوه ليس بباطل وبأنّهم على حق فيه! ومثل هؤلاء لن تنفع معهم الموعظة ولن ينفع النّهي والزّجر بأي حال من الأحوال، طالما أنّهم لا يرون الباطل باطلا وبأنّ ما فعلوه ليس خطئا كبيرا! فهم من الّلذين في قلوبهم مرض «فزادهم الله مرضا»، ومرض القلب لا يُمكن الشفاء منه إطلاقا، بعكس مرض الجسد الذي يُمكن شفاؤه أو - على الأقلّ - يُمكن الوقاية منه أو التخفيف والتقليل من حدّته وضرره، أما مرض قلوب قد امتلأت حقدا وكُرها ووحشيّة ونفاقا ومكرا وخُبثا فلا علاج لها ولا شفاء مما ابتُليت به، مهما بُذل من أجلها ومن أجل أن تتعافى أو تتوب وتعود إلى رشدها.

لقد كان أعداء آل بيت النبوّة - وتحديدا أعداء الحُسين وقاتليه - ممن يُزيّفون الحقائق ويُغيّرون في سير الأحداث لتتماشى مع مصالحهم وتحقق غاياتهم المرجوّة، ولكي تتبيّن الأجيال اللاحقة والقارئة للتاريخ - فيما بعد - بأنّهم ظُلموا وبأنّهم الأبرياء المُضّطهدون والمُعتدى عليهم وهذا غير صحيح، وهذه الشّاكلة من الناس موجودة بالفعل في مجتمعنا الحالي، أناس يدّعون المظلوميّة ويتظاهرون بأنهم المظلومون! وهم الظّالمون المُعتدون! ولكنّ أهل العقول المستقيمة والصّلحاء من الناس واللذين هداهم الله بنوره، يستطيعون التّمييز جيّدا بين المُؤمن وبين المُنافق، بين الصّالح وبين الطّالح، وبين المظلوم وبين من هو ظالم، ويعرفون حقّ المعرفة بأنّ شمس الحقيقة لا تغيب أبدا مهما طال الزمن وامتدّت الحياة، فالحقيقة تظلّ ساطعة وواضحة مهما حاول المُجرمون طمسها أو إخفاء معالمها، والظّالم الحاقد مكشوف مهما حاول التخفّي والتظاهر بالبراءة والمسكنة، فهو شخص يبحث له عن أسباب تبرّر له حقده وكراهيّته ورغبته الجهنميّة في الانتقام والثأر مهما طال عليه الأمد.

من جانب آخر، فإنّ قصة الإمام الحسين مع هؤلاء الظلمة، وما حدث له يوم كربلاء، وأحس به من أحاسيس مُؤلمة، كلها تُعلّمنا مفهوم «الإنسانية» في أسمى وأعظم صُورها، أهميّة أن نكون رُحماء، تملأ قلوبنا الرّحمة، وهي تُعلمنا الصمود والصبر على الشدائد مهما واجهتنا أو عصفت بنا، حتى أقواله التي قالها في وجه أعدائه في ذلك الوقت كانت بمثابة قيم ومبادئ، نستطيع نحن أن نستقي منها دروسا ومواعظ وحكما تنفعنا في هذه الدنيا ما حيينا.

ومن استغاثته ، حين قلّ عدد أنصاره وتكاثر عليه أعداء الإسلام حيث قال: «أما من ناصر ينصرنا؟!» نتعلّم أنه يجب علينا أن نهبّ لنجدة الملهوف والمُضطّر، وهذا ضرب من ضروب الروح الإنسانية العظيمة والتي تتمثّل في «إغاثة الملهوف».

يُفترض بمأساة كربلاء أن تُهذّب أخلاقنا وأن تسمو بها لتجعل كل واحد منا إنسانا بحق يحمل إنسانية كبيرة وعميقة تجاه كلّ شخص مرّ بوضع إنساني مُشابه لوضع الحسين يومذاك من ناحية الوحشة والغُربة الّتين شعر بهما الحسين ، بعد مصيبة فقدان الأحبة وكلّ عزيز على نفسه الزكيّة، هذا الأمر سيجعلك - عزيزي القارئ - إن كنت فعلا تُحبّ الإمام - أن تساعد أخاك المؤمن إن كان مُحتاجا، لا أن تستهين بما فيه وتتخلّى عنه وهو في أمسّ الحاجة إلى مدّ يد العون له، فقد جاء في الحديث الشريف «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا» و«الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه». فلا يغدو الإنسان إنسانا عظيما ما لم تُغلّف قلبه الرحمة، ويتّشح بوشاح الإنسانية العظيمة وقديما قد قيل «لن تصل إلى قمة الإنسانيّة إلا إذا رفضت الظلم الذي يقع على الآخرين تماما كما لو أنه واقع عليك شخصيا»، أن يكون المرء إنسانا يفرح لفرح أخيه في الله.. ويحزن لحُزنه، يهبّ لنصرته والذّود عنه في كل حال ليدفع عنه ظلما وقع عليه، يشعر بوحدته فيُؤنسه إن كان وحيدا، ويشعر بغربته إن كان غريبا فيشعره بأنه ليس منبوذا أو مكروها في هذا العالم، ويؤازره إن كان مظلوما، لا أن يبتعد عنه أو يستهزئ به ويسخر من حاله، أو يُصدّق ثرثرة وبهتانا قيل فيه مصدره قلوب حاقدة سقيمة كلها غلّ وغيرة!

إنّ ما يبكينا فعلا على الإمام هو ما واجههُ وعاناهُ على أرض كربلاء، فحين يهتف القارئ قائلا «يا مظلوم»... نجهش بالبكاء، وحين يقول «يا غريب، يا وحيد، يا شهيد» فنحن نتألّم ونصرخ من شدة الألم ومن هول الصدمة، ذلك لأننا قد تفاعلنا شعوريا مع شعور الحسين وقتها حيث رحلنا بمشاعرنا في الذكرى إلى مكان الحدث... إلى ذلك اليوم العصيب، فكيف أصبح وهو الإمام المؤمن النقي مظلوما وحيدا وغريبا؟! فهو - بلا شك - لم يكن ليستحقّ كلّ ذلك، ولا أن يكون في مثل ذلك الموقف القاسي والمُؤلم ليس عليه فحسب بل على أيّ إنسان في مثل وضعه ولكن هيهات «فلا يوم كيومك يا أبا عبد الله».

فإذا كنت إنسانا طبيعيا وسمعت بسيرة الحسين وما نزل به وبأهل بيته في كربلاء وتحديدا ما تكبّده الإمام، حينها ستُدرك وبفطرتك السليمة بأنّ الدنيا دون إنسانية ليست حياة الصالحين المؤمنين الطّيبين، فالإنسان الصّالح كبير القلب غزير الرحمة وفائق الإنسانية، فحين تبكي على حال الحسين في يوم العاشر من محرّم الحرام فسوف تشعر بآلام الآخرين وكأنّها آلامك أنت، وستشعر بمُعاناة الغير وكأنّها مُعاناتك، فذاك هو الذي سيجعل ارتباطك بالإمام ارتباطا روحيّا وإنسانيا فيخلق فيك روح الإنسانية والرّحمة والتعاطف والألفة ويجعلك تتأثّر لحال كلّ إنسان مرّ بحالة إنسانية مُحزنة أو وضع مأساويّ مُوجع.

إنّ واحدا من أهمّ الدروس التي ينبغي أن نتعلّمها ونستفيد منها من مأساة يوم العاشر من محرّم هو ما قاله الإمام لولده علي «عليهما السلام»... «إيّاك وظلم من لا يجد عليك ناصرا إلا الله» هذه المقُولة اختصرت حجم المأساة، فهي درس في الإنسانيّة وللإنسانيّة جمعاء، الواجب علينا أن نُطبّقها في الحياة ليس فقط من أجل أن نزيد رصيدنا في العلم والتعلم والثقافة، بل من أجل ما هو أهم وهوان نجعلها دستورا ومنهجا لمسيرتنا، إذا إنها تدلّ على وجوب مخافة الله في الضعفاء والمُستضعفين والمظلومين، وأن نتجنّب - قدر المُستطاع - أن نكون سببا في مُعاناتهم، وألاّ نظلم أو نستضعف من لا يجد من يشكو همّه وحزنه إليه وينصره على من ظلمه سوى الله عزّ وجلّ.

فلا بُدّ من إحياء ذكرى كربلاء الحسين في كلّ عام، لكي نُحيي فينا قيما نبيلة صادقة وعظيمة قد ننساها أو نتناساها بقيّة العام، فلنجعلها فرصة ومحطة لتطهير قلوبنا من المساوئ والأحقاد، فالإنسانية هي كلّ ما نحتاجه في هذا الوقت بالذات، هي التي تُضفي علينا طابعا جميلا حميدا فريدا لتُحيلنا إلى كائنات عظيمة يطيب القرب منها والعيش والتعايش معها، وأن نبكي بصدق على الإمام من غير رياء أو نفاق تلك هي قمّة الإنسانية السّوية. فالسّلام عليك يا أبا عبد الله وعلى الأرواح التي حلّت بفنائك... عليكم منّي جميعا سلام الله أبدا ما بقيت وبقي الليل والنهار.