إشكاليات الكاتب والجمهور في ظل هيمنة وسائل التواصل
لا يمكن إنكار التأثير الكبير لوسائل التواصل الاجتماعي في عصرنا الراهن، إذ القارئ اختلف، مثلما الكاتب استبدل أدواته بأدوات تناسب متطلبات المرحلة، وبات لزاماً عليه مواكبة التغيرات، أو سيُقذف خارج إطار قبيلة الكتابة؛ ليعيش وحيداً في كتاباته، وبعيداً عن ملامسة الجمهور وهمومه.
للجمهور أهمية كبرى للكاتب، إذ تدفعه ناحية المزيد من التفريغ للمشاعر والأفكار، فحينما لا يجد الشاعر مستمعاً؛ لن يتطفل على البيئة ويلقي إليها بكتاباته، أما إذا وجدها مصغِية لما يقول، متفاعلة مع ما يطرح، مهتمة أشد الاهتمام بما يثير من جمال في تراكيبه وصياغاته، فعندئذ سيشارك بفعالية.
هذا منطق السوشل ميديا، السائد بين الكاتب والقارئ، عبر تعاقد ضمني، يكفل لكل واحد منهما حرية الاختيار، سواء على مستوى الكتابة، أو على مستوى التلقي والاستجابة بالرد والتفاعل، وهنا يمكن أن تُلحظ مفارقة بينهما؛ تتمثل في عدم التطابق والاتفاق التام؛ إلا إن كان في أمر استثنائي، وهو نادر الحصول، فالشاعر - مثلاً - حينما يكتب، لا يتجه بكتاباته إلى الخارج، بل إلى الداخل، وهو ما سيجعل القارئ يقع في إشكالية“التوجُّه”، فإلى أين يتجه نظر القارئ؟
ينظر القارئ إلى الشعر بوصفه إبداعاً يحمل هموم الفرد المختلفة، فالشاعر لا يعمل على التعبير عن نفسه فحسب، وإنما يُعبّر بصوته عن الجماعة، ولذا تتبعه الجماهير وتهتم بكتاباته، وحين يفشل في ترجمة مشاعرها، فمن الطبيعي تركه؛ لينزوي، ويعيش وحيداً، وهذا لب الإشكال الحاصل.
الحياة وحيداً، وبعيداً عن هموم الجماعة، ليس حلًّا مطروحاً أمام الشاعر، وكذلك الحياة بصخب والانغماس بملاحقة المشكلات؛ من أجل الكتابة عنها، ليس شيئا متاحاً ومسموحاً به، الأمر الذي يعني وجود شرخ، داخل العلاقة التي تجمع جانبي الحياة الثقافية“الكاتب / الجمهور”، وهنا تنبع إشكالية أخرى.
تقوم الإشكالية على فكرة“الاجترار”، فهنالك شعراء وكتاب سابقون، استطاعوا في ظل ظروف معينة، إشباع الحاجات الجمالية والثقافية للجماعة، فيتم العمل على استعادتهم، والرجوع إليهم، وإبرازهم على حساب المعاصرين، وهو ما سيقود إلى فكرة“القطيعة”.
لقلة النظر إلى المعاصر والقريب؛ لن يتم الاعتناء بأي كاتب لا يخضع لقوانين“السوشل ميديا”، حيث تُنظَّم عملية البيع والشراء «تسليع الثقافة»، وسيعاني الكُتاب النبذَ والإقصاء، وهو ما يمكن ملاحظته بوضوح على مستوى التفاعل بين المبدع والمتلقي.
“القطيعة”مآل الجمهور والكاتب، ونتيجة «حتمِية» سيصلان إليها، أمَّا الخاسر من“الصدام”؛ فهي السوق نفسها، التي ستضطر لأجل قبول الثقافة كسلعة؛ أن تلتزم بالشروط التواصلية، وإلا لن تجد مشترياً! فهل هي النهاية؟
كلا بطبيعة الحال، فالثقافة أذكى، وأقدر على التلاعب وخداع حراسها، عبر استخدام حيل لغوية وألاعيب بلاغية، بإظهار ما ترغبه الجماهير وتنشَد إليه، وإخفاء ما يمرره الكاتب ويدخله إلى لا وعيها؛ بهدف“توجيهها”، والتأثير عليها.
آليات السوق؛ يتم استخدامها لتجميل المنتجات الثقافية، فالبيع والشراء في حاجة إلى“تسويق وإشهار”وتركيز على العلامات الثقافية التجارية، التي تمنح الجمهور المتلقي مزيداً من الطمأنينة والثقة؛ لتصبح الأهم في عالم الموضة والحداثة.
سواء اتفقنا أو اختلفنا، فالثقافة في عصر السوشل ميديا سوق واسع متشعب، لا يمكن الإحاطة بمديَاته، إذ يتسع يوماً إثر يوم، وينضم روَّاد جدد وجمهور أكثف لهذا السوق الحر، الذي يجد فيه المرء ما يطلبه ويحتاج إليه؛ من جمال وإبداع وعلم وفن، أما الخاسر الأكبر فهي الثقافة؛ حيث وجدت نفسها سلعة تُباع وتُشرى، من قِبل من يقدِّر قيمتها، ومِن قِبل مَن لا يدرك أهميتها وخطرها.