آخر تحديث: 10 / 10 / 2024م - 10:16 م

رسائل من تحت الماء «1-5»

عبد العظيم شلي

حينما سمعنا رائعة نزار قباني ”رسالة من تحت الماء“ يشدو بها الفنان عبد الحليم حافظ عام 1973، تسائلنا عن فحوى الأبيات والصور الفنية التي تضمنتها القصيدة،

اجتهدنا في التأويل حسب أعمارنا الصغيرة، لكننا قرأنا النص الشعري خيالا عبر الأداء الآسر المتجلي لحنا مسافرا في أعماق البحر.

وقبل أيام عبرنا البحر إلى جزيرة دلمون فرأينا رسائل مائية بحرينية، تفيض أنغاما ملونة، ذاتية وجماعية،

وسمعنا معزوفات فوتوغرافية تحت الماء، ووشوشة تقليب كتب فوق سطح الماء، إيقاعات بصرية تتراقص لحنا مع المقدمة الموسيقية ”لرسالة من تحت الماء“ ومعها تناثرت الأسئلة.

في البدء دلفنا لبهو مركز الفنون لرؤية معرض الفنان أحمد عنان بعنوان ”قميص الغياب“، وأول شيء يستقبلنا تعريف باللغتين العربية والانجليزية عن هوية الفنان ونهجه الفني ومسار تحولاته ومحطات إنجازه، كما جاء في الكتالوج الخاص بالمعرض تعريف يستقرئ عوالم اللوحات وما يدور في ذهنية الفنان بقلم الصحفي علي القميش أنقل بعضا منها بتصرف:

”تشتهر أعمال الفنان بالألوان الزاهية والرسوم التي تتسم بالأسلوب الجريء في التعبير عن المشاعر والأفكار الاجتماعية والثقافية التي تستبطن تلك القيمة الفاخرة لمفهوم الأنسنة بمعناها المجاور للحالة القارة أو المغلقة، متقصدا شحن أعماله بمفردات متشابكة ومتحولة ليكون الفرح مجابها للمعنى المفتوح لمفردة كالحزن، والحياة في قبالة الفناء، من تلك المتواليات التي لا تعرف سوى النهايات المفتوحة، يترجم الفنان الحالة الخاصة التي عاشها، وأراد أن يرويها رمزا دون إفصاح مباشر، ليلون الأثر بمثابة تلك القيمة الجمالية التي تختبئ وراءها جملة فاغرة ومكتنزة في آآن واحد بمفردات دالة على مكابدات الفقد والألم“ - انتهى الاقتباس -.

المعرض أشبه بمرثية تنعي رحيل الأحبة، تقتفي أثر الغياب، هكذا أراد الفنان أن يعبر عن حالات الفقد التي عاشها، وخصوصا في فترة الجائحة، التي سيطرت على أحاسيسه وأقضت مضاجعه سهرا بين الريشة واللون والنعاس، تفاعل مكنه من تحقيق جائزة الدانة وحصوله على المركز الثاني قبل سنتين عن عمله المميز ضمن معرض البحرين السنوي للفنون التشكيلية، حيث الشخوص هائمة كالفراشات، ترفرف بألوان الأمل، متجاوزة محنة الوباء والألم، حالمة بعالم أجمل.

لكن الفنان ظل يستحضر وجوه من غابوا تباعا بأسلوب مبسط دون تعقيد وكأن أعماله تماثل تعبيرات رسوم الأطفال، جرأة في الطرح دون تلكؤ، بعيدا عن حسابات النسب والأبعاد، شخوص مجردة طليقة سابحة في الفضاء، هي أرواح صاعدة نحو السماء، وأخرى تنتظر نحبها ملفوفة بأردية الحزن، مبعثرة الحواس، مجاميع لبورتريهات ذات تعبيرات شتى يغالبها الغموض والصدمات النفسية، موزعة بين وجوه غارقة في حلكة الظلام، تماثلها مؤطرة بالسواد، وأخرى مطلية بالكحلي، وغيرها متآكلة باللون البني الصدئ، كلها مغيبة الملامح غارقة في الأحزان، بعضها تنسلخ من جلدها لتخربشها الألوان الباردة، لتتخفف من وطأة الفقد، ثمة نحيب يتعالى من صمت التماثيل البرونزية وسط قاعة المعرض، انفعالات ضاجة بصراخ المثكولين، وأخرى ترثي حالها، وتواسي الأنفس الفاقدة، وكأنها تتدثر بقميص الغياب، تذكار لماتبقى من أثر الراحلين.

أعمال ذات تشكيلات تعبيرية تحمل مدلولات نفسية، غارقة في الإيهام عن معنى الوجود، متسائلة حول جدوى الحياة!، شخوص تتوارى في حلكة موحشة، مغيبة الملامح، تبحث عن ذاتها، عن كيانها، عن ظلها الموؤد.

تتشظى الرؤية حول ما أنجزه ”عنان’ بين الأمس واليوم، أين ذاك الفرح المتناثر على أديم لوحاته المحتفية بالنسوة المكتنزات اللآتي يشبهن نساء الفنان الكولمبي“ بتيرو ”، أين الغادايات بضفائرهن“ ”المگرملة“ اللآتي يرفلن بأزيائهن التراثية، ”الهاشمي، والنفنوف، والمشمر“.

أين تلك الحسناوات الصبوحات، هل غادرن حضورهن لأجل غير مسمى؟.

حين خرجنا من معرض الفنان ظلت تلاحقني سطور مدونة بين الأعمال مفادها: ”في الفقد تصير الملامح تشظيات غائرة في الروح، كلما كانت الخسارة أعمق، تكسرت الملامح، وصعبت الإجابة عن أسئلتها“!

أي معنى يختبئ عبر صفحات كتيب المعرض المكسو بغلاف أسود فاحم، يتوسطه مربع مفرغ يطل على ورقة مظلمة هي الأخرى تشير للعنوان ”قميص الغياب“

”The Shirt of Absence“

وفي الصفحة الرابعة تطالعنا صورة شخصية للفنان، يا ترى هل هو؟ أم شخص آخر، أمعقول هذا وجه ”أحمد عنان“! أين ذاك الشاب الودود ما أن تراه يبتسم لك قبل أن تصافحه، ترتسم على محياه براءة صبا، حليق شعر الوجه وكأن عارضيه لم تخطان بعد، وبين صورته الحالية المكسوة باللونين الأسود والأبيض بعيون غائرة ونظرات سارحة ولحية خطها الشيب، أصبحت ملامحه تبدو أكبر من سنه، هل هي انعكاس لواقع الفنان؟

يقودنا ”المانفيست“ المعلق على جدار المعرض ليدلنا إلى ما هو خارج إطار الصورة: ”يتناول المعرض قميص الغياب موضوعا حياتيا خاصا ودلالات مخبوءة أحيانا أخرى واضحة تعرض لها الفنان نتيجة صدمة مفاجئة غيرت طرحه عن المعارض السابقة، أعمال بها من الجرأة بقدر ما بها من إحساس وشعور ليصل إلى المتلقي بتأويلات متغايرة“.

من قسوة المعاناة تتخلق الأفكار، ومن رحم الألم تتولد الأعمال المحملة بالرموز والإشارات لتدلنا كم هي عذابات الفنان وكم هي حجم مكابداته النفسية، وكم هي خساراته الوجدانية، رسائل مبللة بماء العين، موزعة بين اللوحات والتماثيل، مشحونة بأوجاع الرحيل، هي قصائد نعي تعبيرية تواسي النفس في محنتها، ليخبرنا بأن الفن هو الطبيب المداويا، وكأني بعنان يقول لفنه عبر صوت العندليب، ”إن كنت طبيبي ساعدني كي أشفى منك“! الفن ظمأ دائم وإن وردنا الماء.

بطاقة تقدير:

شارك الفنان البحريني أحمد عنان اخوانه في جماعة الفن التشكيلي بالقطيف ضمن معرضهم الخامس عشر لعام 2015 م.