آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 1:42 م

الخوف وقناطر الماء.. قراءة «1» لرواية «العائدون من الغرق» لموسى الثنيان

عبد الغفور الدهان

أن تمارس فعل القراءة بالغوص في ”ماء المعنى“ و”طين الفكرة“ في الوقت نفسه، يعني أن تملك زمام النص بأكمله، تبحث وتقلب كل ما في أعماق ذلك النص“كطّواشٍ“يُجيد التمييز بين ”اللؤلؤ الحقيقي والياباني“ كما تقول الرواية إذن تلك هي ”القراءة الخلاقة“ كما يسميها غاستون باشلار.

عند قراءة رواية ”العائدون من الغرق“ سنرى بوضوح تعلق الكاتب بطين التاريخ الذي حاول الغوص فيه والخروج منه بقراءة جميلة بعد بحث وتقصي لتلك الحقبة الزمنية، ومما لا شك فيه أنه نجح لحد ما في تجاوز اسياج تلك الحقبة الزمنية و”العقدة التاريخية“.

إن اختيار الماء كقنطرة للعبور بالنص السردي يعد تحدي مليء بالمفاجآت، هذه القنطرة تُشبِه لحدٍ كبير طبيعةَ الحلم في حضورهِ وغيابهِ المفاجئ، فكلنا يُدرك طَعمَ مرارةِ هربِ الأحلام من أحداقنا لحظةَ اليقظة، وكلنا يعرف كم أن ذلك الهرب يؤذينا جداً ويَفعلُ بنا تماماً ما يفعلهُ الفقدُ بأفئدة الثكلى، فالخوف من الفقدِ شبحٌ لا يُغادر أحداقنا وهو في حالةِ تأهبٍ للجثمِ على صدورنا عند أي فقدٍ محتملٍ لتلك اللحظة الحالمة، في ”العائدون من الغرق“ سنلحظ كيف أن الماءَ كان لصيقاً بالخوفِ وأن علاقتهما الطردية كانت متمثلة في الحضور والغياب، فكلما حضر الماء حضر الخوف وكلما غاب الماء غاب الخوف أيضا.

تلك العلاقة الوثيقة جعلتنا لا نُفرق بين الماء والخوف، كنا نرى كيف أن الخوف كان ظلاً للماء مُلتصقاً به، يُحركُ ماهيتَهُ، يلاحقه من أول بئرٍ في الرواية حتى آخر نفسٍ للقدر الحميمي الذي وَهَبَته ”عفاف“ قربانا للينابيع، الخوف كان المهيمن على كل شيء حتى الشجاعة ذاتها. كان ظاهراً وباطنا، يتدلى على حواف الحوارات وأطراف أحداث الرواية، الخوف كان يعبر قناطر الماء يغوصُ في رحم البحار، فيتفجر على شفاه الينابيع، ثم يتسرب إلى أضيق خاصرة لغدران الصحراء التي كانت تحاصر منابت الماء بمخالبها، الصحراءُ ذاتها كانت تخاف أن ينفلتَ منها الماء أيضاً، إذن الخوف تسرب لكل شيء بدء من شفاه الشواطئ حتى آخر عرقٍ من عروق الصحراء.

عند عبور قناطر الماء في تتبع مفردة الخوف سنكتشفُ بجلاءٍ ما أشرنا إليه، وهو أن الخوف كان ملتصقا بمواطن كثيرة للماء إلا أن المطر لم يكن له حظٌ وافرٌ من حصة النص السردي، ولو تَعقَّبناهُ قليلاً داخلَ الرواية فسوف نعثرُ عليهِ حاضراً على هيئةِ واعظٍ يُخّوفُ ”الحاج علي“ من مغبة سرقتَهُ للروبيات الفضية ”كان الوقت ظهرًا، حيث بدأت الأمطار بالهطول حينئذك جثمت على صدره الأفكار المؤلمة“، ”يشعر بحقارة نفسه، في تلك اللحظات انهالت عليه المخاوف“ هذا الحضور اليتيم كان مقترناً بالخوف أيضاً ما يجعلُنا نتمسك بقولنا أن الخوف تسربَ لكل ما هو ”مائي“ وإن كان ذلك الحضور بشكل مؤقتٍ، ونود الإشارة هنا بأن التخلي عن قنطرة المطر أضاع على الرواية فرصةً كانت ستزيدُ من رصيدِها الجمالي في حال الاشتغال عليها، المطرُ مادةٌ غنية مكتنزة بالجمال وأنشودة المطر للسياب خير دليل على ما ندعيه،

أتعلمينَ أيَّ حُزْنٍ يبعثُ المَطَر؟

وَكَيْفَ تَنْشج المزاريبُ إذا انْهَمَر؟

كَالْحُبِّ، كَالأطْفَالِ، كَالْمَوْتَى هُوَ الْمَطَر!

هذا النص المجتزئ القصير جداً يستطيع القارئ أن يدرك من خلاله بوضوح حجم الفرصة التي ضاعت من يدي الكاتب عندما زَهِدَ في إشراك المطر لهذه المائدة وضمه للقناطر الأخرى داخل الرواية.

ولكي نحصر تجليات الخوف داخل الرواية في تعقُّبِنا لمنابت الماء، لا يَتَحتَمُ علينا أن نلوي عنقَ النص لإلصاق تهمة الخوف بكل ما هو ”مائي“ وبالتالي نُحَمّلُ النص ما لا يحتَمل، لا لشيء إلا لأجل التوازي مع عتبة عنوان هذه القراءة، الالتزام بتتبع ما قالته الرواية هو ما يهمنا وما نبحث عنه، وإننا لسنا بصدد قراءة تأملية شاطحة لا تمت للنص بصلة.

لدى سنحاول العبور فوق تلك القناطر المائية لنكتشف عن كثب تمظهرات الخوف في كل ما هو ”مائي“ وقد نَتعثر بمفردة للخوف في منابت ”طينية“ هنا أو هناك فيُخَيّلُ لنا أن الخوف عند ذلك الموطن لم يمر عبر قنطرة الماء، لذلك يجب علينا الالتفات إلى أن بعض تلك المواطن مجاورة لمنبت ”مائي“ ولكن الخوف تمظهر في منبت ”طيني“ وسنوضح ذلك فيما سيأتي من النصوص ابتداء من هذا النص ”و هنا أحجمت الكثير من السفن المحملة بالسلع عن الدخول إلى الخليج“ من هنا بدأت الولادة الأولى للخوف التي ألقت بظلالها على ناصية الرواية فكان هذا هو المنبت ”المائي“ الأول للخوف الأول ”فشحت السلع وأصيب الناس بالذعر والخوف“ إن الخوف هنا نمى على منابت ”طينية“ لكن صيرورة الخوف نشأت من المجاور ”مائي“، وهذه الجيرة هي المسؤولة عن نقل ذلك الخوف بالدرجة الأولى، فعندما أصيب الناس بمسٍ من الخوف دفعهم ذلك ”الإقبال الجنوني على شراء ما توفر من بضائع، مما أحدث خللا في شراء المؤن عند الكثير منهم“ إذن الخوف دخل على أعتاب الطين من جهة البحر المجاور، وقنطرة البحر كانت هي أولى قناطر الماء التي سنعبر بها قراءتنا للرواية.