آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 1:42 م

شظايا تقاوم الغياب

عبد الباري الدخيل *

”حواف الحنين حادة.. أظن أنني أنزف“

يكابر.. يقول إنّه خارج أقفاص الشوق، لكنّ الانتظار يفضحه.

"وإنّي لأهوى النَّوْمَ في غَيْرِ حِينِهِ

لَعَلّ لِقَاءً في المَنَامِ يَكُونُ"

في حدائق الذاكرة لا يوجد إلا هي، كيف لغياب شخص واحد أن يُحدث كلّ هذا الفراغ؟!

النوم لا يزوره إلا قليلًا، وبداخله أحاديث يودّ أن يخبرك بها.

الساعة الآن الواحدة بعد منتصف الليل، يجلس وحيدًا، الساعة الآن الخامسة فجرًا، مازال وحيدًا.

لا يقلق من ضوء الشمس، فالنافذة أغلقت بالإسمنت، لم تعد أشعة الشمس تتسلل إلى غرفته.

بقي حتى السادسة وحيدًا، إلى أن دخلتِ عليه وبيدك كوب شاي وخبزة ممسوحة بالجبن.

سأل: لكِ أم لي؟ فأنا لا أشتهي الأكل الآن.

أجبتِ بحزم: يجب أن تأكل.. مرَّ أكثر من يومين وأنت لم تتناول إلا الماء.

رفع يده وشكرك على لطفك، وقال: اعذريني فشهيتي كذاكرتي مزاجية، تجلب ما تريد وقت ما تشاء، لا أستطيع الأكل والقيد يضغط على معصمي، كيف أتناول ما بيدك وأنا مقيد للسرير؟

أصابه الفزع وأنتِ تضحكين، وتسكبين الشاي على الأرض، وترمين بالخبز من النافذة..

النافذة كانت مغلقة.. كيف فُتحت هكذا؟

لماذا يقف أخوك خلفك؟

من هذا الرجل الذي يقف إلى جانبه؟

ماذا يريد من حمله للكبريت؟

لماذا يحاول إحراق الغرفة؟

صرخ من هول المنظر، النار بدأت بك وتجري نحوه، صرخ، وقام من كابوسٍ كاد أن يقتله.

الساعة السابعة، مازال وحيدًا، يتصبب عرقًا وكأن جهاز التكييف لا يعمل.

**

قرر أن يتخلص من أي شيء يذكره بك، زجاجة عطر، دب أزرق، أرنب أبيض، دفتر مذكرات، قلم حبر، دواوين درويش، روايات عبدالقدوس، كتب ومجلات، فنجان قهوة منقوش عليه أول حرف من اسمه، فنجان شاي عليه صورة غروب، أدوات الرسم التي نسيتها في سيارته ذات مساء، نقابك الذي اتسخ بالقهوة، منديل مطرز بوردة حمراء كنتِ قد صنعتِه بيديك أيام الدراسة المتوسطة، منديل ورقي وضعتِ عليه آثار أحمر الشفاه، وردة جفت وسط رواية العجوز والبحر، لوح زجاجي بوسطه علم برشلونة، إطار لصورة مزين بقطع القواقع والصدف صنعتماه معًا.

لكنه توقف..

ماذا عن ذكريات هذه الهدايا؟

كيف سيتخلص من الذكريات؟

بعد مرض ألزمه الفراش منحته زجاجة العطر..

بعد رحلة قصيرة على شواطئ جزيرة تاروت جمعتما القواقع والصدف وصنعتما إطارًا لصورة..

يوم أن أهداك ديوان شعر لدرويش جلبه من بيروت لففتِ يديه بمنديلك المطرز بوردة حمراء..

وأنتما تراقبان الغروب اتسخ نقابك فتركته في السيارة..

اقترح عليك رسم لوحة للغروب فبقيت أدوات الرسم معه..

الدب في عيد ميلاده، والأرنب ليلة «الكريكشون»..

والسوار الذي اشتراه ليهديك إياه في مناسبة لم تأتِ.

إنه يحتار ماذا سيحذف، وحذف الذاكرة يستعصي عليه؟!