«شو يقولوا لها بالعربي..؟»
كان لي زميل أمريكي متزوج من فتاة عربية. كان ذلك الزميل شغوفاً باللغة العربية، دائماً ما يسألني عن أسماء ومعاني الأشياء أو طريقة نطق بعض الكلمات. كنت أصادف زوجته وأطفاله كثيراً، وما كان يثير استغرابي هو تحدثهم باللغة الإنجليزية فقط. حاولت ملاطفة أطفاله والتحدث معهم باللغة العربية فلم يفهموا عليّ، وقد أخبرني لاحقاً أن زوجته العربية لا تتحدث معهم إلا باللغة الإنجليزية. في الحقيقة من المحزن أن يتخلى الشخص عن لغته الأم، ومن المجحف في حق أطفال المتزوجين من جنسيات مختلفة، حرمانهم من تعلم لغة الأم ولغة الأب.
تحدثتُ في مقالي السابق عن أهمية تعلم لغات الأقوام الأخرى لنأمن مكرهم، إضافة للفوائد الكثيرة الأخرى. لكن من الضروري ذِكر أهمية اللغة الأم في تشكيل هوية الفرد، وتعزيز انتمائه لثقافته وتاريخه. وإنه لمن دواعي الفخر إتقان الكثير من السعوديين الكثير من لغات العالم، لكن من المحزن استبدال بعضهم تلك اللغات بلغته الأم. وقد أنتجنا أجيالاً لا يتحدثون اللغة العربية ولا يفهمونها إطلاقاً.
إن ضعف الشخص في التحدث بلغته الأم قد يؤثر على قدرته على التواصل بشكل فعَّال مع مجتمعه، بسبب صعوبة التفاهم مع الآخرين وفهم أفكارهم ومشاعرهم. وقد يؤثر على إحساسه بالانتماء؛ مما قد يؤدي في النهاية إلى تأخر الفرد والمجتمع.
وقد شهدنا إنجازات الشعب الياباني في الإلكترونيات والتكنولوجيا والنقل وصناعة السيارات والقطارات، وإبداعهم المتواصل في ابتكار كل ما هو جديد ومفيد. إن لتعصب اليابانيين للغتهم حتى أصبحت واحدة من أكثر اللغات استخداماً في العالم دوراً كبيراً في ذلك.
ويُعدُّ الصينيون من أكثر الشعوب تمسكاً وتعصباً للغتهم أيضاً، مما انعكس على إنجازاتهم في مجال التكنولوجيا والاتصالات والذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية، إضافة لتصدُّرهم قائمة أكبر الدول المصدّرة والمستوردة للسلع والخدمات، وامتلاكهم أكبر اقتصاد بعد الولايات المتحدة، حيث تعتبر الصين من أسرع الدول النامية اقتصادياً في العالم.
وقد ساعد تعصب الألمان للغتهم على تطورهم في الأدب، والفلسفة، والموسيقى والعلوم، إضافة لمكانة لغتهم المرموقة أكاديمياً، حيث يستخدمها الكثير من العلماء والمهندسين والفنيين في العديد من المجالات المختلفة، مثل الفيزياء، والكيمياء، والرياضيات، والهندسة والطب. وتعمل الحكومة باستمرار على دعم اللغة الألمانية، وتوفير الدورات اللغوية للطلاب الدوليين الذين يرغبون في الدراسة بألمانيا.
وتعتبر اللغة الأم أحد أهم عوامل تطور ونمو الأمم، فهي المورد الأساسي للثقافة والهوية الوطنية والتراث الثقافي للشعب. تساعد على التواصل الفعَّال بين الأفراد، وتقلل من سوء الفهم والالتباسات التي قد تحدث عند استخدام لغة أجنبية. وتمكّن الفرد من اللغة الأم يسهل عليه فهم واستيعاب المفاهيم والأفكار، ويحسن قدرته على التعلم والتعليم.
كذلك يساعد استخدام وإتقان اللغة الأم الشركات والمؤسسات على التواصل الفعَّال مع العملاء، ومع بعضهم البعض؛ مما يدعم ويعزز نمو وازدهار الاقتصاد الوطني.
وبشكل عام، فإن التمسك باللغة الأم يعزز الهوية الوطنية والترابط الاجتماعي، ويحقق التنمية الشاملة والمستدامة للشعوب. ولذلك، فكما يتحتم علينا تحفيز الأفراد على تعلم اللغات الأخرى، يجب التأكيد على أهمية حفاظهم على اللغة الأم، وتعزيزها كقيمة ثقافية وتراثية لتحقيق التقدم الثقافي، والعلمي، والاجتماعي والاقتصادي.