التطير بين التاريخ والوهم
لنفترض أن رجلا هم بالخروج في يوم ما ليقضي بعض أعماله، يلبس ثيابه ويحمل مفاتيح سيارته ويخرج، يركب السيارة يدير المحرك فلا يعمل المحرك، يستوضح الأمر فيكتشف أن بطاريته لا تعمل، يصلحها بطريقة أو بأخرى فتعمل السيارة ويمضي، يسير قليلا ليتفاجأ بأن السيارة ترتج يوقف السيارة ليرى ما سبب ذلك فيكتشف أن أحد الإطارات معطوبة، ينزعج كثيرا ويستبدلها بالاحتياطية، ثم يفكر قليلا ويتردد لكنه يمضي على مضض متوجها إلى وجهته، وفي تلك الأثناء تداهمه سيارة لترتطم بسيارته محدثة أضرار خفيفة في الجزء الخلفي للسيارة، فينفجر غضبا حينها، لو سألنا أنفسنا هنا سؤالا: ماذا يجب على الرجل أن يقرر ويفعل، هل يمضي في سبيله أم يقرر العودة لمنزله وترك ما كان يقصده ليوم آخر؟
قبل الإجابة على السؤال لنعد كثيرا إلى الوراء ونسلط الضوء على زاوية من زوايا الاعتقادات لدى الشعوب ألا وهي التشاؤم وما يصاحبه من طقوس ومعتقدات بطبيعة الحال حسب ثقافة تلك الشعوب وبيئتها وطريقة حياتها، فالشعوب في الجزيرة العربية قديما وتحديدا في زمن ما قبل الإسلام رسمت صورا كثيرة للتشاؤم والتطير، والتطير هو ضرب من ضروب التشاؤم وسمي تطيراً: لأنَّ العرب كانوا في الجاهلية إذا خرج أحدهم لأمر قصد عش طائر فيهيجه، فإذا طار الطير من جهة اليمين تيمن به ومضى في الأمر، ويسمون هذا الطائر في هذه الحالة: «السانح»، أما إذا طار جهة يسار الإنسان تشاءم به، ورجع عما عزم عليه، وكانوا يسمون الطير في هذه الحالة: «البارح»، فكان العرب في الجاهلية يتطيرون بالبوم وبالغراب، فإذا نَعَبَ الغراب مرتين قالوا: آذن بِشَر، وإذا نعب ثلاثًا، قالوا: آذنَ بخير، كما ارتبطَ اسم الغراب بالفِراق «البَيْن»، بل وتشاءموا وتطيروا من بعض الأسماء، وذوي العاهات: فبعضهم إذا سمع سفرجلاً، أو أهدي إليه تطير به: وقال: سفرٌ وجلاءٌ، وإذا رأى ياسميناً أو سمع اسمه تطير به، وقال: يأسٌ ومَيْنٌ، وإذا رأى سوسنة، أو سمعها قال: سوءٌ يبقى سنة، وإذا خرج من داره فاستقبله أعور، أو أعمى، أو أشل، أو صاحب آفة تطير به، وتشاءم من يومه، ومن تطيرهم أيضا تطيرهم بشهر صفر فكانوا يعتقدون بأن به نحسا وتطيروا أيضا من الزواج في شهر شوال، ومن ذلك أيضا تطيرهم بكنس دار المسافر يوم سفره، كما أنهم تشاءموا وتطيروا من العطاس ورفة العين اليسرى وتطيروا من يوم الأربعاء، وأمور كثيرة لا مجال لعدها وتبيانها.
الغرب أيضا كان له نصيب كبير من هذا الموروث الثقافي والاعتقادي في التطير فحضر في صور وأمور عدة ارتكزت على خلفية معتقداته ونمط معيشته، حيث تطيروا من بعض الأرقام، وأشهرها هو الرقم «13» ولذلك حذفته بعض شركات الطيران من ترقيم المقاعد، وحذفته بعض الفنادق من أرقام الغرف والشقق؛ لأن الناس يتشاءمون من ذلك الرقم، يقال أن سبب هذا التطير هي: قصة نصرانية تزعم أن حواريِّي عيسى عددهم اثنا عشر حوارياً، فانضم إليه يهوذا الأسخريوطي فصاروا ثلاثة عشر، وهذا الأخير هو الذي وشى بعيسى وتسبب في صلبه؛ فلذلك يكرهون هذا الرقم، ويتشاءمون منه، كما نجد في موروث الغرب القديم وثقافتهم أنهم كانوا يتطيرون من المرور تحت أي سلم خشبي، والسبب في ذلك يرجع إلى القرون الوسطى حين كانت عمليات الإعدام في أوروبا تنفذ باستخدام سلم خشبي مستند إلى الحائط، وتطيروا من القط الأسود والبومة كما عند العرب ويعود تطيرهم من البوم لاعتقادهم بأن روح الشخص الميت تقوم بالخروج على هيئة طائر البومة لتقوم بالصراخ حزناً وألماً على جسده الذي تم دفنه في التراب عند موته.
وفي اتجاه الشرق حضر التطير في الثقافة الصينية، ولدى بعض دول آسيا، فتطيروا من الرقم أربعة، الذي أصبح مرادفًا لجلب الشؤم، أما في الثقافة اليابانية فتطيروا كثيرا من رقم ”9“ بشدة.
وقد وردت في القرآن الكريم آيات تحكي قصص تطير أقوام سابقة وكيف تم ردها بإبطال مزاعمهم واعتقاداتهم آنذاك بربط مخاوفهم ووساوسهم بالتطير، على سبيل المثال تطير المصريين القدماء من الأنبياء والرسل: ﴿فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ ، كذلك في قصة تطير قوم نبي الله صالح ﴿قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾ وورد أيضا تطير أصحاب القرية برسلهم وبالصالحين: ﴿قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ﴾ فمع مجيء الإسلام ونشر تعاليمه، فند كل هذه الترهات ونفاها جملة وتفصيلا واستبدل التشاؤم بالتفاؤل، ومع هذا الذم الصريح للتطير وبيان عدم شرعيته والنهي عنه اندثرت عادات كثيرة من التطير بعدما كانت ضربا من ضروب الجهل في الاعتماد عليها في اتخاذ القرارات والعدول عنها عوضا عن الاتكال على الله، واقعا التطير فضلا عن أنه منهي عنه شرعا لصرف الأسباب والمقادير لغير الله وتحويل بوصلتها لأحداث يربطها الإنسان بأمور ما أنزل الله بها من سلطان فهو قبيح عقلا ومنطقا كذلك إذ كيف يعطل الإنسان عقله ويقنع نفسه بصرف المقادير والأحداث لأسباب غير منطقية البتة ويحدوا بها في تسيير أموره وتعطيل أعماله أو تسييرها.
وعطفا على السؤال في أول المقال وعلى ضوء ما تعرضنا له، فإن اختيار الرجل المضي هو اختيار صائب وشجاع وينم عن ثقة بالله سبحانه وتعالى وصفو عقله من التفكير اللامنطقي والتخاذل في إعمال العقل بالأخذ بالأسباب وحسن الظن بالله والإيمان بالقضاء والقدر فلا شأن لليوم بما حدث له أو سيصيبه إنما هي تقديرات من العريز الحكيم وما هي إلا ابتلاء واختبار من الله سبحانه وتعالى، القرار أيهما كان بالمضي أو العودة يجب أن يكون منطلقا من الإيمان بالله وقدره وأن لا شأن لليوم والشهر والناس فيما سيصيبه أو أصابه إنما هو واقع بمشيئته عز وجل لا من الناس أو الحيوان أو الجماد أو الأيام ولا شك بأن الخيرة فيما اختاره الله والطيرة ما أشار به الشيطان.