خارج الأسماء، داخل اللحظة
عادة ما نترك القصص تبرد لنكتب عنها، حين تتحول لذكرى، نرشُ عليها قليلًا من الملح، حتى تلسعنا الندوب كلما حسبنا كم من الوقت مضى. لكن هذهِ المرَّة مُختلفةٌ جدًا، الحكاية لم تبدأ منذُ أيام فقط، حين تلقيت دعوة من الإعلامي القدير محمد رضا نصر الله، يذكر فيها أنه ”سيُشرفنا الشاعر الكبير أدونيس“. بل قبلها، مع حفل أقرأ الصاخب، والذي يجمعنا كعادته بأسماء سكنت معنا في بيوتنا.
وجوهٍ نخشى أن نقرأها عن قرب أحيانًا حتى لا نحترق بالضوء، وأخرى تسير في ضوئها مطمئنة فلا يخشى قارؤوها الاقتراب. اللحظة هائلة ومُهيبة، ليس لأنني سأُقدم نصي لأدونيس، وبحضور أجيال وتجارب جليلة وأسماء لها مالها في الثقافة والشعر تحديدًا؛ بل لأن المجالس لا تُفسح عادةً للشاب، ولا تمنحُ المرأة صدر المكان؛ فماذا سأقرأ في لحظةٍ كثيفة الضوء كهذه. كانت لحظة مرتبكة بعد إذ استمعنا فيها لمدَّة يومين لمواد ثقافية متنوعة، ودارت بيننا قامات عظيمة، وحضرنا فيها للجان تحكيم، تُقيِّم تجارب ناشئة مهولة من مشتركي مسابقة أقرأ.
فأي نص يُمكن أن يتقدَّمَ واثقًا حينها؟ حقيقة جهزّتُ نصين، لكنني احترامًا لوقتِ مُضيفي وضيوفه اخترتُ آخرًا قصيرًا. قرأته وأنا أُدرك تمامًا حجم هذه اللحظة التاريخية، ليس في مسيرتي ومسيرة جيلي الذي تعثرَ بوحشتهِ كثيرًا وقام. بل في كل هذه الطفرة الثقافية التي تشهدها البلاد. طفرة تفور بكل ما اكتنزه بركان الصمت لسنوات، فتُخرج من جوفه كل ما هو غث وسمين، فتضعُنا أمام استحقاق آخر لتمييز ذواتنا، ورفعها عن التفاهة التي تُبالغ جدًا في ”فرقعة”نجومها. زمنٌ التبست عليه حتى هرموناته، فضاعت فيه الهويات، واشتعلت فيه خطوط تماس داخلية هذه المرة، خطوط تماس مع دواخلنا. خاصةً نحن جيل الثمانينيات، الجيل الذي كانت ذواتنا ومُنتجنا الثقافي بالأمس ملعونًا، فإذا بهِ اليوم مُباركًا، فصمتَ الكثير منا تائهًا، جفَّ حبر البعض، وآخر ظُنَّ أنه داخل حبسة الكاتب، لكنه قيدَ حبسةِ مُحبط.
يقول الشاعر علي سباع: ”نحن مثل أسرى الحرب، لم يكن هذا عدونا، ولا ننتظر من ذاك وطنًا، نخرجُ من منازلنا كما لو كنا في نزهة، ويخرج خلفنا الشعور بالتكيّف، يهش بعصاه قطعاننا الهاربةِ، ويقودنا حتى المغيب، بين الأزقة والبيوت، بين السفوح والسهول، كأنه يسكب لنا حياة في فنجانٍ مقلوب، لكنهُ يظلُّ جريئًا في إشعاله النار أمام الرياح، لا نعرف في المساء إن كانت هذهِ النار ستؤدي بمجازها إلى الكراهية أو الحب؟ وهذا الصمت إن كان سيؤدي إلى لغةٍ سليمة المخارج؟ أو ما سيقوله المستقبل عن دخانٍ كثيفٍ وخانق“.
إننا هنا اليوم قُبالة“أدونيس.. نبي الحداثة”في مجلس تَحاورَ صاحبهُ مع ما يُقارب المئة وخمسين شخصية عربية وعالمية، مُعظمها من روَّاد الأدب والفلسفة. كم من الشاعرية في هذه اللحظة إذًا؟ الشاعرية التي نجدها كثيرًا في الكتب، لكننا نصطدمُ بخشونتها كلما اقتربنا من كاتبها، ومُبدعها. ولعلَّني أُبسط المعنى أكثر لو قلت الإنسانية _ على اعتبار أن الشاعر هو أكثر رهافةً وحساسية، فتغدو بذلك إنسانيته في عمق شاعريته _ في قُربها من الآخر واحترامها لذاته، بعيدًا عن رفعة الألقاب ومجون الأنا حين تظنُ بنفسها التفوق والكمال.
هذا التواضع الشفيف الذي رآه الجميع في شخصية أدونيس، في إثراء، وتركيزه على أن نكون نحن باختلافنا وذواتنا الخالصة في الكتابة؛ هو ما جعلَ هذهِ اللحظة الكثيفة الضوء، كالخيال البديع، أو كحلم من أحلام اليقظة، التي لا يُثقلها الواقع، ولا يؤلمها اللاوعي وصندوقه الأسود. أمَّا عن شعر المرأة وزمنه القادم مما أثار حساسية البعض، ففيه مقامٌ طويل. سأتحدثُ فيهِ على الأقل من مكاني كامرأة، تنتمي لمجتمعين عربيين معًا، وأيضًا لزمنين ثقافيين أيضاً؛ لذا وجبَ عليَّ أن أقول ما أقول. ولعلَّني قبل الخوض في الحديث عن المرأة العربية وزمنها الشعري القادم كما استشرفهُ أو قال بهِ أدونيس.
أقفُ عند معنى الشِعر كما أجده، تلك التركيبة من الشعور الغامض الذي نلتقطه من أعماق أرواحِنا، فيتجلى باللغة صورةً ومجازًا، مُتقدًا بالوعي، ومُحلقًا بالخيال، مُستعينًا في اصطياد الأحاسيس الفارَّة بعدته في اللغة عبر معجم خاص لكلٍ منا، مُعجمٌ من ورد أو من شوك، بكل حمولته من الثقافة والخبرات. اللغة أيضًا موسيقى تُدوزن الكلمات، لئلا ينسكبَ المعنى، لكن الشِعر يعني الرحابةَ أيضًا حين يكون مُشرعًا على التأويل. هذهِ الذاتية التي ينطلق منها الشِعر ويؤسس عليها، لا يُمكن أن تتحقق في ذات لم تقترب من نفسها، ولم يُسمح لها أن تعرف نفسها.
المرأة الآن أقرب لذاتها، إذ هي في طريقها للخروج من حِصارها في صفة الأنوثة، نحو صفة الإنسان الأعم والأعمق. بعد أن أٌثقلت بخصوصياتٍ وممنوعاتٍ ووصاياتٍ كثيرة. لم تصل المرأة بعد كما لم يصل الرجل ليقول أو يكون ما يُريد، لكن المرأة تتخفف اليوم من الكثير من الحمولات التي أرهقت إنسانيتها، والتي لم يُعاني منها الرجل. لذلك تمتلك الكثير من النساء هنا خبرات مُختلفة لم يختبر قسوتها الرجل، وهنا يتكون للمرأة معجمها الخاص، ووعيها المُختلف، لذلك أقولُ نعم لابد أن يكون الزمن القادم هو زمن المرأة في الشعر، إذا أسسنا على عمق المعنى والتجربة أي المضمون. أما إذا استندنا على شق اللغة فقط بما هي شكل، فنحن هنا لا نجد فرقًا بين كتابة الرجل أو المرأة.
أيضًا ليس المقصود بالمعجم الخاص للمرأة هي مفردات الأنوثة، بل هي تجربة الأنوثة وهي تكتشف إنسانيتها وذاتها بعيدًا عن التصنيف، والفصل، والخصوصيات. إن كان لابد لأحدٍ أن يتحسس من فكرة ”أن الصوت الشعري القادم، سيكون من جهة الأنثى ”فمن الأدعى أن تتحسس المرأة لذلك قبل الرجل، أليس هي من شقَّت الدرب طويلًا لتقول أنها إنسان أولًا. لكن من الطبيعي أن يكون هذا الصوت هو القادم تبعًا لمسار التجربة الاجتماعية والثقافية للمرأة، وذلك في سعيها لتحقيق استقلاليتها واكتشاف ذاتها، بعيدًا عن تدجين الشرق أو تسليع الغرب. ولم ينتهِ الحديث بعد..”من أجلِ بناء تاريخٍ آخر بعد تاريخ تمزَّقَ في جسدِ امرأة”.
+++++