آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 2:13 م

رشد من الغي أم غي من الرشد؟

زهراء السلهام

في ذات مرة أطربتني قطعةً موسيقية إلى حد أنّها جعلتني أغنّي في ساحة الصدق، وأمسح بخار القهوة عن عدسات نظارتي.

لأعود أدراجي عند مفترق طريقين تتشتت فيه أفكاري، وتهاجمني الحيرة ويراود عقلي الشك تارةً بأنّ سنوات عمري الماضية قد أضعتها هباءً وتارةً بأنّها لم تكن سوى خير مغنم.

تلك حيرة الظامئ الذي يرى سراباً، فيظل السؤال عالقاً يستغيث لينجو بإجابةٍ شافية.

أكانت حقاً رشد من الغي؟ أم هي غي من الرشد؟

وبعد طول تفكير هممت للنظر عن كثب خلف شرفة الحياة لتتضح لي الرؤية التي ربّما أدركتها في زمن غير زمني.

ثم قررت بعد طول تفكير، أنّي لم ولن أجعل المنافسة وصراع المعرفة لسؤال أكل صدري يُتعبني ويحرمني.

فلربّما أدرك في نهاية الأمر أنّني أنفقت مخزون المياه بأكمله من أجل ري شوكة.

لقد اكتشفت أنّني عندما ابتعد بذاتي وأنفصل عن كل علاقة تسحبني لها عواطفي، أجد نفسي وقد سئمت لعب دور الصديق الذي لا يهرب وقت الضيق على أن أكون هاربة مثلهم أيضا، فأرى حينها بوضوح بعض الأقنعة قد التصقت في وجوههم بشكل جيد جدًّا، فلا تسقط ولا تتزحزح، ولا تكشف أمر صاحبها.

أنا أيضا أرتدي قناعا مثلهم إلّا أنّه في شكل ابتسامة.

فللأسف بات ليس مهمًا في هذا الزمن ما تؤمن به من مبادئ، بل ما تستميت للدفاع عنه من مصالح!!

فجميعنا في منتصف الحياة.

ووحدهم الأموات من وصلوا للنهاية.

لذلك أقول وليس قولي الحق، وحدهم الأموات من غنموا الجولة في تربيتهم لنماذج بعيدة عن الأخلاق حيث كانت التربية آخر همّهم ولم تكن في نظرهم إلّا شلل في الشخصية.

لا تقولوا لي لهم شأنهم، بل قولوا لي أين أضع السنين التي ضيّعتها لأكسو ثمراتي، وأصقلها بما ينبغي أن تكون عليه من أخلاق، وعلّمتها أنّ الحلال بيّن والحرام بيّن، وناضلت لترتقي لما فيه خير وصلاح، وعانت حتى تتعلم كيف ترتدي ثياب الذوق والأدب، وكافحت كثيراً لتؤمن بضمير الصدق وجزم العون وضم المساعدة دون انتظار الأرباح في صناديق الاستثمار العاجلة.

وكم دئبت لإتقان رسم خطٍ أحمرٍ قاني حول أذيّة الآخرين وخط لوحةٍ كبيرةٍ ملوّنة بممنوع الاقتراب من مشاعرهم الرقيقة وإن كانت هناك منفعة.

فأي قيم تلك التي وجدتها ممنوعة من الصرف في عالمنا!؟

فمن تتمثل بالوقاحة واللؤم، ومن يتلوّن فمها في كل مجلس بلون مختلف يمنحها المجتمع لقب المتربية التي تتمتع بحمده وشكره واحتضانه.

عذراً قارئاتي الغاليات ربّما صفعت وجوهكم البريئة بكف الواقع المر.

فإن تدعو للحرية يعني أن تعترف صريحاً أنّك الآن عبداً لشيء ما، حتى لو كان لفكرة الحرية نفسها.

وما الصمت الطويل إلّا شكوى مديدة غير معلنة، فرأسك قد سقط في مدينة ولد فيها نبي عدل، ولكن في مجتمع لا يرتضي العدل!!!

فكيف يمكنك أن تقيم العدل في أمة خلت نفوسها منه؟

لله درّك يا أبا الحسن إن كنت أنت صورة العدل على الأرض ومع هذا فقد قلت «ليقوم الناس بالعدل عندما تقول للعدالة أخرجي تقول للظلم أدخل»

معنى هذا أنّ القيام على إقصاء مقولة العدالة، بعني أنّ الفسوق أصبح نسباً، وكما أنّ النفاق الاجتماعي مظهر سيئ.

فإنّ الإمام علي يقول «يا أبا هاشم سيأتي زمان للناس وجوههم ضاحكة مستبشرة وقلوبهم مظلمة منكدرة غير صافية بالتعامل مع الناس، كن في الناس ولا تكن معهم» والله تعالى يقول: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [البقرة: آية 204]

إنّ جاذبية الشخص المغناطيسية التي كان النبي محمد ﷺ عليها لا تكمن في الاختباء بالمغارات، فنحن لا نحتاج لإنسان يضع أسواراً كثيرة تحجبه عن الناس.

إنّ حجم الأذى الذي تلقّاه رسول الله بحجم التأثير الذي يقع على الناس، ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ [القيامة: آية 3,4]

﴿أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق?: آية 15]

العلم الفعلي هو أنّ الفرد يعلم بحواسه بوقوع الأشياء قبل أن تحدث. فإن كنت متيقناً أنّ الخير جيد، إعمل الخير دون تردد.

لأن كل شيء حاضر بين يدي البارئ عز وجل وقد نبّه الناس بأنّهم سوف يعرضون على جهنم يوم القيامة ليريهم حقيقة أعمالهم القبيحة كيف تتجسّد بنار حاطمة.

فشبابنا تارةً ينجذب بالمخدرات ويوماً ينخرط للتطرف الديني ويوماً،

ذلك أنّ رؤوسهم خلت من نهج القرآن فخلت سلوكهم من الأخلاق الزكية.

فقد كان جلياً أنّ مَنْ قرأ القرآن فاستظهره «يعني حفظه» وحلل حلاله وحرّم حرامه نزلت البركة في بيته وانتشر النور في صدره حتى قاده للالتزام بمضمون القرآن وآدابه وقيمه، فتتنزل عليه الرحمة وينتظم علمه.

لقد كان الناس في حالتهم الأولى مفطورين على التوحيد حتى أتت العقائد المزيفة والنواميس الدنيوية والأهواء النفسية ففرقتهم إلى شعبٍ كثيرة ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [يونس: آية 19]

البعض منّا يؤمن بأنّ كل الثرثرة سوداء وأنّ الصمت لغة بيضاء للعقل والحكمة، لكنّها ليست كذلك دائماً فبعضهم يغدر بك بصمت والبعض يسرقك بصمت وبعضهم يرتشي عليك بصمت، ﴿أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق?: آية 15]

أين هي الأيدي التي ننتظرها لتدعمنا عندما نتعثر؟!!!

فمع بالغ الأسف ربّما حلت محلها الأقدام!!!

لم أكن يوماً بهذا القدر من التشاؤم حتى بليت كالبقية بواقعنا المؤلم.

وليس أدل على ذلك من موقفٍ لم تزل صورته عالقةً في ذهني لشحاذين اثنين في سنٍ متقدمة، إذ مررنا بهما في سوق بشارع فرانكفورت وهما غاضبان ويضرب كلٌ منهما الآخر ويشتمه، وكل ذلك لأن أحدهم يتهم الآخر بأنّه اقتحم مكان رزقه الذي يشحذ منه بلا وجه حق، ذلك أنهما يعتبران هذه الزاوية هي أكثر حظاً في الكسب من تلك.

أيامٌ قد خلت لنا ما كسبنا من الجهل والفوضى؛ ولذلك نحن بحاجة ماسة فعلياً لذلك التوجيه.

فمن أرقى الأفكار التي قرأت عنها هي فكرة عجلةٍ ذهبيةٍ تتحرك فوق أكوام من الرماد وتطرح سواد ليلٍ طويل وراء ماضي السنين، والعجلة الأخرى تبسط سجادة الأمن والسلام اإلى الأمام ببذور التغيير، لنتمكن من معرفة نواقصنا وكسر مفخرة العجز، وإزاحة صدأ السنين، لنبدأ بترميم التآكل الزمني لعصرنا البالي، فبالمفكرين والمثقفين نستطيع أن نرسم خريطة الإصلاح بأيدي بيضاء ونضيء العتمة من الأنفاق المظلمة، ونقيم من خلالهم مدارسًا لإيواء ثورةٍ علمية، وغزوٍ ثقافيٍ جديد لإزاحة ولو القليل من إعصار الجهل، ثم بناء طبقةٍ أرضيةٍ طاهرةٍ من زلزال التعصّب، ثم علينا بعدها أن نكسر المعابر في غياهب الظنون بالفخر بعادات وتقاليد صادرت كل ما هو نفيس وغالي من حياة الرقي والسلام، واستبدلته بسلاسل لوثها الصدأ إذ قيّدت العقل والفكر ومنعت الرؤى الجميلة من الصعود فوق سلالم الواقع الأليم ومعالجته من الفكر عمّا هو غث وسمين.

نحن لا نعرف أنّ السلال قد تقيّد العقل والفكر كما تقيّد الأيدي وتغل الأرجل حتى باتت تقيّدنا عن التنوير.

قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [الحج: آية 8,10]

﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [لقمان: آية 21]