يعتقد الناس في الولايات المتحدة أنهم أفضل مما هم عليه في الواقع. أما الشرق أسيويون لا يعتقدون بذلك
بقلم البرفسور شينوبو كيتاياما، علم النفس الاجتماعي، جامعة ميشيغان
15 مايو 2023
المترجم: عدنان أحمد الحاجي
المقالة رقم 141 لسنة 2023
People in the U.S. Think They Are Better Than They Actually Are. People in Asia Don"t
Shinobu Kitayama
May 15,2023
الفردانية الغربية قد تروج لذهنية ”أنت في الواقع أفضل مما تظن“
ما مدى أهليتك «جدارتك / قدراتك» مقارنة بزملائك؟ عندما يسأل باحثو علم النفس مجموعات من زملاء عمل صيغًا مختلفة من هذا السؤال، يظهر نمط مثير للاهتمام. إذا كان لدى الناس منظور واقعي جدًا عن مدى قدراتهم، فيجب أن تكون تقييماتهم لأنفسهم متوسطة [لا متدنية ولا مبالغ فيها]. ولكن طالما اكتشف باحثو علم النفس أن تقييمات الناس لأنفسهم مبالغ فيها. في الواقع، يميل البارزون منهم وذوو الأداء الضعيف على حد سواء إلى الاعتقاد بأنهم أفضل مما هم عليه بالفعل.
هذا التأثير هو أحد الأمثلة على الوهم الإيجابي [1 - 7]: وهو نوع من أنواع التحيزات المعرفية [8] الذي يجعلك تشعر بأنك أقدر ومباركًا أكثر ومحظوظًا أكثر وأفضل من غيرك. الأوهام الإيجابية تبدو بديهية ومعقولة لكثير من الناس. يزعم بعض الباحثين بأن هذه الأوهام جوهرية لبقاء الجنس البشري على قيد الحياة. حتى يعيش المرء، يرى هؤلاء العلماء أن عليه أن يظل متفائلاً ويعمل بجد وينجح في عمله ويعمِّر طويلًا ويخلِّف نسلًا وراءه.
بالطبع، بعض الناس لا يشعرون بأوهام إيجابية وتبدو تقييماتهم لذواتهم أكثر واقعية. لسوء الحظ، فإن مثل هذه التقييمات الذاتية قد تجعلهم يشعرون بأنهم قاصرين عند مقارنة أنفسهم بآخرين لديهم تقييمات ذاتية إيجابية جدًا. قد تكون هذه المقارنات سببًا مهمًا لمتلازمة المحتال [9] - وهي الشك في أن المرء غير جدير بالإنجازات التي يدعيها. بعبارة أخرى، قد تكون متلازمة المحتال هي الجانب المظلم للقاعدة المجتمعية تجاه الذات الإيجابية [المترجم: ومن أمثلتها أن من لديه ذات ايجابية لا يخشى من ارتكاب أخطاء ويشعر بالرضا في داخل نفسه ويحب نفسه ولديه احترام قوي لذاته، كما يحترم مشاعر الآخربن بنفس القدر الذي يحترم به قدراتهم [10] ].
لكن هناك تحفظ مهم على هذه المزاعم: القرائن المتاحة تستند بشكل حصري تقريبًا على جزء بسيط من البشر في الغرب. إذا كانت الأوهام الإيجابية ضرورية جدًا للجنس البشري، فإننا نتوقع أن تكون هذه التقييمات عالمية. لكن أبحاثي - وأبحاث فرق بحثية أخرى - توحي بخلاف ذلك.
في أوائل التسعينيات، بدأت أنا وزملائي مشروع ”الثقافة والذات [11] Culture and the Self“، لاستكشاف كيف يمكن أن يختلف الاحساس بالذات عبر الثقافات. لم نجد أي قرينة قوية على تأثير ما هو أفضل من المتوسط أو على الأوهام الإيجابية الأخرى في شرق آسيا. في اليابان، على سبيل المثال، عندما سُئل طلاب الجامعات عن نسبة أقرانهم الذين يعتبرونهم أفضل منهم في مختلف السمات والقدرات، لم يبارح التقدير مستوى ال 50 بالمائة.
في أحدث تخصص لأبحاثنا - وهو علم الأعصاب الثقافي - وجدنا أن المسارات العصبية [الألياف العصبية [12] ] التي تدعم الأوهام الإيجابية غير موجودة في مجتمعات معينة. بعبارة أخرى، فإن النمط الذي اعتبره معظم باحثو علم النفس على أنه كليات ثقافية «كليات انسانية» [13] بدلاً من أن يكون نتاج ثقافة معينة.
تأتي الغالبية العظمى من قاعدة البيانات النفسية مما يسمى بمجتمعات ال WEIRD «وهي عبارة منحوتة من الحروف الأولى للكلمات التالية: المجتمعات الغربية المتعلمة والصناعية والغنية والديمقراطية». معظم باحثي علم النفس والمجالات الأكاديمية الأخرى لديهم خلفية ال WEIRD الثقافية. لذلك، فإن الرأي العام القائل بأن الأوهام الإيجابية هي كليات ثقافية قائم على أبحاث متجانفة بشدة skewed research.
لتجاوز حدود منظور ال WEIRD الثقافي الغريب هذا، قمت أنا وزملائي بمقارنة اجابات الغربيين والشرق آسيويين مباشرة على الأسئلة التي سُئلت عن الذات. في إحدى الدراسات التي نُشرت عام 2022 في مجلة علم النفس التجريبي: عامةً، أبدى المشاركون الأمريكيون والتايوانيون مدى شعورهم بالرضا أو عدم الرضا حينما يكونون بصدد النجاح أو الفشل. أفاد الأمريكيون أن من شأنهم أن يشعرون بمشاعر أفضل تجاه النجاح أكثر مما سيشعرون به حيال الفشل. في الوقت تفسه، لم يُبدي المشاركون التايوانيون هذا الوهم الإيجابي: بالأحرى، فقد أفادوا بأنهم سيشعرون بعدم الرضا إزاء الفشل أكثر مما سيشعرون به حيال النجاح. قد تعكس هذه الاجابة من المشاركين التايوانيين ميلًا نفسيًا آخر يسمى ب التحيز السلبي، حيث في العادة هناك وقعٌ للوقائع السلبية على الاحساس والسلوك أقوى بكثير من مثيلاتها الإيجابية [14,15].
ثم ذهبنا خطوة أبعد مما عملنا في البحث السابق وذلك أننا قمنا بمراقبة موجات دماغ المشاركين أثناء قيامهم بإصدار هذه الاراء. على وجه التحديد، لاحظنا مستوى ”موجة ألفا“ - وهو نمط من النشاط يظهر عندما يسرح الشخص بفكره وينخرط في أفكار واعية «تشغل باله» موجهة داخليًا. لاحظنا تأثير موجة ألفا عندما فكر الأمريكيون في أنفسهم خلال جزء من الثانية بعد ما عرفوا أن شيئًا جيدًا حدث لهم. هذا الانتباه المبكر تنبأ بحجم أوهامهم الإيجابية. أمَّا المشاركون التايوانيون لم يظهر عليهم هذا النمط عندما كانوا يفكرون في نجاح أو فشل حدثَ لأنفسهم، كما لم يظهروا أي قرينة على وجود أوهام إيجابية لديهم، كما ذكر أعلاه.
في شرق آسيا، التواضع سمة لها تقديرها من الناحية الثقافية للسكان هتاك. لهذا السبب، حاول بعض باحثي النفس الغربيين تفسير غياب الأوهام الإيجابية بالقول إن سكان شرق آسيا يخفون مشاعرهم الحقيقية لتجنب الظهور بمظهر الأناني المفرط [وهو الذي لا يهتم الا بنفسه وبتلبية احتياجاته ورغباته فحسب self focused]. لكن بياناتنا تظهر أن هذا التفسير غير دقيق. لم نلاحظ أي نشاط دماغي زائد، على سبيل المثال، من شأنه أن يتلازم مع إخفاء مُتكلفٍ لمشاعر الشخص الحقيقية بين التايوانيين الذين شاركوا في دراستنا.
على العكس من ذلك، الغربيون يتخذون خطوة إضافية لتعزيز شعورهم بالرضا عندما يحدث لهم شيء جيد. فهم يُعظِّمون إلى الخد الأقصى المشاعر الجيدة عن الذات تلقائيًا، وذلك من خلال استجابة عصبية تلقائية. وهذه الاستجابة تحدث في جزء من الثانية، بدون جهد ظاهري. قد تبدو مثل هذه الاستجابة طبيعية وحتمية، لكنها ليست كذلك. ولكن، هذه الاستجابة تعود إلى الخلفية الثقافية للمشاركين، حيث تشكلت عبر سنوات من التنشئة الاجتماعية [وهي أن يكون الفرد اجتماعيًا يتفاعل ويندمج مع مجتمعه [16] ]. يُدرَّب الدماغ بشكل مكثف لإصدار هذه الاستجابة لأنه يدعم المواقف التي تساعد الشخص على التوافق مع ثقافته الفردانية [على حساب الثقافة الجمعية / الجماعية]، مما يجعله يهتم بذاته ويروج لها [17] . أما سكان شرق آسيا لا تظهر عليهم مثل هذه الاستجابة التلقائية أو العفوية. يبدو أنهم أكثر تقبلاً للأحداث المختلفة مثل تلك الأحداث التي تحدث لهم. وجد بحث آخر قمنا به أنه على الرغم من أن تقدير الذات [18] يعتبر عامل تنبؤ بالصحة في الغرب، إلا أنه ليس له نفس التبعات في مجتمعات شرق آسيا [19] .
عند أخذ هذه النتائج في الاعتبار، فمن المهم الاشارة إلى أن النتائج المتعلقة بثقافة أو مجتمع بأكمله نتائج متباينة. ضمن جماعة معينة، يمكن أن يكون هناك درجة عالية من التباين والفروق من شخص إلى آخر. كما ذكرنا سابقًا، بعض الأشخاص في الغرب قد يشعرون ب متلازمة المحتال، والتي قد تمثل مشكلة بشكل خاص، نظرًا للتركيز المعياري القوي لهذه الثقافة على الشعور بالإيجابية تجاه الذات. يوضح هذا المثال سبب عدم قدرتنا على افتراض أن كل غربي أو شرق آسيوي سيتَّبع نمطًا معينًا. لكن بعبارات فضفاضة، عندما نرى هذه الأنواع من الاتجاهات trends في أبحاثنا، لدينا فرصة لمعرفة المزيد عن كيف تؤثر الثقافة في الدماغ والسلوك.
نعتقد أن التباين الثقافي في الأوهام الإيجابية هو أحد الأمثلة على الاختلاف الثقافي الفضفاض في كيف تُفسر الذات. تعتبر المجتمعات الغربية عمومًا الذات مستقلة. وبالتالي، فإن الناس في هذه المجتمعات لديهم الحافز للشعور بالرضا عن أنفسهم. ويبذلون قصارى جهدهم لتعريف كفاءتهم وتفردهم. ومع ذلك، في العديد من الثقافات خارج البلدان الغربية، يعتبر الناس أنفسهم متكافلين ومرتبطين بالعلاقات الاجتماعية. يشعرون بالحماية والأمان بارتباطهم بمجتمع اجتماعي كبير. من هذا المنظور الثقافي، ليست هناك حاجة للشعور بالرضا بشكل خاص عن الذات الفردانية والمستقلة.
مهدت هذه الاختلافات الطريق لجميع أنواع سوء الفهم بين الناس. من المنظور الغربي، قد يبدو سكان شرق آسيا مهذبين بشكل مفرط في اهتماماتهم بالروابط الاجتماعية أو قد يبدون منفصلين أو حتى مكتئبين أو غير منظمين في تناقضهم تجاه الترويج الذاتي وسلوك المبادرة [المترجم: المبادرة سلوك للتغلب على عوائق تحقيق الاهداف]. ومع ذلك، تبين بياناتنا أن سكان شرق آسيا يستجيبون للأحداث بشكل طبيعي وواقعي، دون تفكير مُتكلَّف. من منظور الشرق آسيويين، نزعة الغربيين لتعزيز المشاعر الجيدة تجاه الذات قد يبدو على أنه حهد عقيم أو غير ضروري أو حتى صبياني لأنه يثبت كيف يفشل الشخص في تقدير الطبيعة العلائقية للذات. لكن بياناتنا تشير إلى أن الأمريكيين يعززون ذواتهم الإيجابية لأنها تساعدهم على التكيف مع ثقافتهم والاندماج فيها. إجمالاً، بتبني مقاربة علم الأعصاب الثقافي، قد نضطر للدفاع عن مفاهيمنا الثقافية المسبقة وتحيزاتنا، مما يجعل المنهج العلمي منهجًا غير عنصري.
بالتراجع خطوة إلى الوراء، يؤكد هذا العمل البحثي على قوة الثقافة. البشر هم الوحيدون الذين بقوا على قيد الحياة وذلك باختلاق مختلف الأعراف والممارسات والمعاني والمؤسسات الاجتماعية والاستفادة منها. تسارعت وتيرة تطور هذه الأشياء، التي تسمى باختصار ”الثقافة“، خاصة على مدى العشرة آلاف سنة الماضية، لتشكيل العديد من المناطق الثقافية [20] الرئيسة اليوم. تختلف هذه المناطق اختلافًا فاحشًا، والتباين الثقافي في الوهم الإيجابي هو مثال واحد، وإن كان مهمًا، لعملية أكثر عمومية تؤثر من خلالها ثقافتنا في طرق تفكيرنا وشعورنا وتصرفاتنا. نحن نعرف ما هي ثقافتنا. ومع ذلك، فإننا لا نقدر قوتها في التأثير قي العقل بشكل كافٍ.