اصنع فرجا..!
في كل يقظة بعد سُبات حياة وليدة، وفي كل لحظة ميلاد، ولكل نفس وجهة تبتغيها وتسعى إليها..! حتى يبلغ كل قلب يقينه، وتنتهي كل روح إلى ما تبتغي وتريد وتسعى! هنالك تمتاز كل نفس بحقيقتها الخاتمة، وبما هي عليه، وتم ميقات ربك حقا في وجوده، عدلا في حكمه وعطاياه وخواتيم الجزاء، وعظيم العطايا، وعظيم الرحمات!.
في يقين المفارقة للسعي، وحلول «السلب» وتمامه، في زوال الملك المتوهم، وإسلام النفس إلى يقين التجرد من الحول والقوة والطول، عند لحظة العمى التامة عن كل شيء، وعند الإعراض عن كل شيء، تسقط الغشاوات كلها، وتزول واحدة تلو أخرى، تبصر كل نفس حقيقتها المجردة للمرة الأولى، وتنال يقينها الأول والأخير..!.
يقين بالعجز هنا لا سبيل للشك فيه، ولا سبيل للرجوع عنه، ولا سبيل للخلاص منه ولو لمرة واحدة..! في هذا العجز التام والمكتمل تنحصر إرادة أنفسنا في شيء واحد ضئيل جدا ومتواضع جدا يخبرنا الله عنه: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾ [المؤمنون: آية 99,100]!. عبارة تختزل في قصرها، وضعفها خاتمة الحسرة المستدامة..
لأننا حين ذاك نرتجي أن نمكن من «أن نفعل فيما كنا نملكه طيلة عمرنا» ما كنا قادرين على الدوام على فعله، وأن نمكن فيما هو متاح لنا طيلة عمرنا، وأن نوهب لحظة فعل واحدة، ما كان لأحد أن يسلبها منا، حتى باغتنا السلب، وتم علينا نزع الفعل والملك والإرادة!!.
هذا الذي يجعل كل يوم من أعمارنا هو «نشأة جديدة» وأن الله في كل يوم هو في شأن معنا، بحسب حالنا، وصفات قلوبنا، وخباياها وما تسعى، وما تبتغي بنواياها وما تريد!..
وإن كل يوم يتيح لنا عطية لفقير نبذلها، وفرجا لعاجز نصنعه، وكسرا لضعيف نجبره، وكرما لذي رحم نرتفع إليه، وطهرا في القصد نستسيغه ونسعى إليه.. فإن تمت علينا لحظة المفارقة كنا في شوق الجنى ولذة خاتمة السعي.
رأيتُ من يصنع فرجا بحبل يدلي به لغريق..! فكأنه وهبه حياة بعد موت! ورأيت من يحيي نفوسا من ذل العوز، ويرفعها من مهانة الطلب بقليل من عطية، وكثير من التفقد والرعاية!. ورأيت عفة لأيدي تأوي إلى الظل في ضراعة لله أن يتقبل منها هذا القليل بقبول حسن، وأبصرت أيتاما أغناهم الله بمن يحب من عباده المخلصين..!.
ورأيتُ أجساد أغنياء عارية توارى في التراب.. مسبلة أيديهم.. غائرة عيونهم كانت أنفسهم وإيمانهم أضعف من رغيف يطعم به جائعا، أو كسرة يسوقها إلى فقير، ولا شيء يوحش نفسه أكثر من حديث يعينه على أن ينتصر على شح نفسه.. ولو ببقايا طعامه، والبالي من ثيابه..!.
في كل يوم نشأة جديدة، وحياة جديدة.. أصنع فرجا.. وأغث ملهوفا.. وأجبر مكسورا.. وأكفل يتيما وفقيرا وضعيفا.. فلو كان في الدار الآخرة ثواب أعظم منها لما كانت أمنية كل نفس بعد حلول عجزها وتمام السلب عليها أن ترد لتعمل صالحا فيما تركت من خلفها.
﴿كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ﴾ [الدخان: آية 25 - 28].
أي لم يبك عليهم أحد في السماء، ولم يبك عليهم أحد في الأرض. وما كانوا منظرين.. فلا تكن أحدهم..
﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ [القصص: آية 77].