التصعيد الممنهج
انتقال الصراعات الثقافية، والسياسية، والاقتصادية، وكذلك العسكرية، من مرحلة لأخرى، مرتبط بالظروف المحيطة أولا، وبطبيعة تلك الصراعات ثانيا، والأطراف المحركة لها ثالثا، ومستوى التأييد الشعبي رابعا، فكل عامل من العوامل السالفة يلعب دورا في استمرارية تلك الصراعات، أو الضغط عليها لإيجاد الحلول المناسبة، خصوصا وأن تلك العوامل بإمكانها إحداث اختلالات حقيقية، في إمكانية الصمود سواء على المدى القريب، أو المتوسط، أو البعيد.
اللجوء إلى التصعيد في الصراعات مرتبط باستغلال الظروف الزمانية، وكذلك المناخات الاجتماعية، فإذا كانت الظروف مواتية ومساعدة في الانتقال، من مرحلة جس النبض إلى مرحلة إظهار العداء بشكل علني، فإن الأطراف المحركة لتلك الصراعات لا تجد غضاضة في تفجيرها بشكل علني، بهدف استغلال الظروف السائدة بما يحقق الأغراض الحقيقية، من وراء إشعال تلك الصراعات في البيئة الاجتماعية.
الخشية من الفشل، وعدم القدرة على تحقيق الانتصار، في الوقت المناسب، يشكل هاجسا حقيقيا لدى أطراف الصراعات، في مختلف البيئات الاجتماعية، فهذه المخاوف تشكل دافعا باتجاه البحث عن المخارج، لتجاوز تلك الصعوبات، مما يشجع على اختيار وسيلة التصعيد، والتخطيط لانتقال إلى الهجوم العنيف، على الأطراف المناوئة، بهدف إشغال البيئة الاجتماعية بالمستجدات الجديدة، وعدم الالتفات إلى الإخفاقات الكبيرة، في المراحل السابقة، الأمر الذي يسهم في تحقيق بعض الغايات الآنية، والبحث عن وسائل جديدة أكثر قدرة على تضخيم الانتصارات، لدى الرأي العام الشعبي.
القدرة على تحريك الصراعات من طور لآخر، عملية ليست سهلة على الإطلاق، نظرا لوجود عراقيل عديدة، تحول دون الوصول إلى تلك الغايات، وبالتالي فإن العملية بحاجة إلى إجراءات تمهيدية، والعمل على تهيئة البيئة الاجتماعية، للمرحلة القادمة، بهدف الحصول على التأييد الشعبي، والحيلولة دون خسارة الساحة الشعبية، الأمر الذي يفسر الانقلاب الإعلامي الكبير في التعاطي مع الصراعات، حيث تلعب الماكينة الإعلامية دورا كبيرا، في تمهيد الطريق أمام المرحلة القادمة، لا سيما وأن الانتقال إلى المرحلة القادمة يتطلب الكثير من الدعم، والإبقاء على القاعدة الجماهيرية القادرة على تمرير المبررات، من وراء استدامة تلك الصراعات، وتجاهل جميع النداءات الساعية لإغلاقها بشكل مؤقت أو دائم.
الدخول في لعبة ”التصعيد“ مغامرة خطيرة في الغالب، خصوصا وأن النتائج غير محسومة في كثير من الأحيان، الأمر الذي يستدعي احتساب الخطوات بدقة متناهية، من أجل ضمان تحقيق الأغراض المرسومة، لاسيما وأن الصراعات على اختلافها لا تخلو من المفاجآت، مما يجعل التخطيط المسبق في مهب الريح، بمعنى آخر، فإن التصعيد يشكل مخرجا للخروج من المأزق الشديد، الذي تعيشه بعض أطراف الصراعات، ولكنه ليس قادرا على تقديم الحلول السحرية على الدوام، نظرا لبروز مفاجآت ليست محسوبة على الإطلاق، مما يحدث انتكاسة كبرى في طبيعة العلاقة القائمة، بين أطراف الصراعات والبيئة الاجتماعية، بحيث تترجم على أشكال مختلفة بعضها ذات علاقة بانكشاف الغايات الحقيقية، من وراء حملات الشحن المستمرة لإدامة الصراعات، والبعض الآخر مرتبط بالآليات المعتمدة في تضخيم تلك الصراعات، وبالتالي بروز الفتور لدى القاعدة الشعبية تجاه التفاعل مع تلك الصراعات، والعمل على الابتعاد بشكل جزئي أو كلي، عن الانخراط في تلك المعارك العبثية.
عدم الاستجابة السريعة لكافة مساعي التهدئة وتجاهل المساعي الهادفة للدخول في جولة مفاوضات، ورفض اعتماد الصلح كمبدأ ثابت في المنظومة الثقافية السائدة، ينم عن إفلاس كامل أو شبه كامل لدى أطراف الصراعات، خصوصا وأن التعنت والتمسك بالمواقف المتشنجة، يمثل دلالات واضحة بوجود أغراض مغايرة تماما، عن الأسباب المعلنة لإطلاق تلك الصراعات على الساحة الاجتماعية، الأمر الذي يدفع باتجاه الرغبة غير المبررة لإدامة تلك المعارك، دون القدرة على تبرير الغايات، من البقاء على المواقف الرافضة، لمبدأ الصلح والسلم.