آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 10:22 م

طاولة المفاوضات

محمد أحمد التاروتي *

اللجوء إلى طاولة المفاوضات لحسم الخلافات الجانبية، يكشف مستوى متقدم من المسؤولية، لتغليب التهدئة على التصعيد، خصوصا وان التداعيات والآثار المترتبة على تعميق الخصومة، لا تقتصر على تشابك أطراف الخصام، ولكنها تنسحب إلى الأطراف المؤيدة، والداعمة لتلك الأطراف، الأمر الذي يسهم في توسيع دائرة الخلافات في البيئة الاجتماعية، وبالتالي حدوث انقسامات عمودية وأفقية، في مجموع التشكيل الاجتماعي.

القناعة بضرورة تفعيل مبدأ التخاطب المباشر، وتجنب اللجوء استخدام القوة والعنف في حل الخلافات، تشكل المحرك الأساس وراء الجلوس على طاولة المفاوضات، فالمحركات الذاتية لتطويق جميع ثغرات الخلافات، تدفع باتجاه دعم كافة الجهود الساعية لتقريب وجهات النظر، خصوصا وان عملية جمع أطراف الخصومات تتطلب الكثير من الجهد والعمل الكبير، نظرا لوجود اختلافات عديدة، بعضها ذات طبيعة بالتركيبة الشخصية لأطراف الخلاف، والبعض مرتبط بالمخاوف من نوايا الأطراف الأخرى، الأمر الذي يتسبب في حالة من النفور تجاه العديد من المواقف المتخذة، وبالتالي فإن وجود القناعة بأهمية الانخراط في عملية تهدئة الموقف، ومنع الانفلات وخروج الأمور عن السيطرة، يخلق حالة من الارتياح لدى الجهات الساعية لتغليب منطق الحوار، على حساب التماسك بالمواقف، ورفض جميع أنواع الوساطات.

الطاولة المستديرة قادرة على إحداث اختراقات حقيقية، من خلال وضع جميع نقاط الاختلافات على طاولة البحث، مما يسهم في إيجاد الحلول المناسبة لسد تلك الثغرات، بالإضافة للبحث عن حلول ترضي كافة الأطراف، من خلال انتهاج سياسة ”لا غالب ولا مغلوب“، الأمر الذي يجعل كل طرف ينظر إلى الاتفاق باعتباره ”نصرا“ خاصا، بمعنى آخر، فإن طاولة المفاوضات تعطي فرصة لتحقيق التهدئة بالدرجة الأولى، وتمثل الوسيلة لإعطاء جميع الأطراف الحد الأدنى من المطالب، فضلا عن تجنب البيئة الاجتماعية التداعيات الكارثية الناجمة عن استمرار الخلافات، الأمر الذي يحول دون الدخول في دائرة العنف.

الضغوط الخارجية تلعب دورا كبيرا، في تسريع جلوس أطراف الخلافات، حول طاولة المفاوضات، ولكنها تبقى غير قادرة على تحقيق الغايات المرسومة، نظرا لعدم وجود القناعات الذاتية لدى أصحاب الشأن، بأهمية الانخراط بإرادة صادقة في التهدئة، خصوصا وان بعض أطراف الخلاف يحاول استغلال الضغوط الخارجية، لتحقيق بعض المكاسب على الأرض، من خلال إيصال رسالة للبيئة الاجتماعية بالاستعداد لإبداء حسن النية، بيد أن الأطراف المقابلة غير قادرة على اتخاذ القرار، باتجاه تغليب التهدئة على العنف، وبالتالي فإن الضغوط الخارجية تلعب أحيانا فاعلا، في تقريب وجهات النظر، والدخول في الحوار المباشر، ولكنها - الضغوط الاجتماعية - لا تمتلك القدرة على إجبار أطراف الخلاف على إبداء الإرادة الصادقة، إذ بمجرد انفضاض ”حفلة“ طاولة المفاوضات تعاود الخلافات بشكل أقوى، نظرا لانعدام القناعة الذاتية لدى تلك الأطراف بأهمية إسكات دائرة العنف، وتجنيب البيئة الاجتماعية الآثار المدمرة للخلافات.

البيئة الاجتماعية تمتلك القدرة على ممارسات الضغوط على أطراف الخلافات، ولكنها غير قادرة على ترجمة على أرض الواقع، نظرا لانخراط شريحة في الخلافات بشكل مباشر، مما يحدث انقسامات في الرأي العام الاجتماعي، الأمر الذي يحاول أطراف الصراع استغلاله بطرق مختلفة، بهدف تمرير الأهداف الحقيقية لاستمرار الخلافات لفترة طويلة، وبالتالي فإن توحيد الموقف في البيئة الاجتماعية يمثل إحدى الأدوات القادرة على تجنب المجتمع ويلات الخلافات، التي يشعلها بعض أصحاب المصالح الذاتية، من خلال رفض الدخول في تلك الخلافات لتفويت الفرصة على تلك الأطراف، للحصول على الشرعية الاجتماعية لاستمرار دوامة العنف الداخلي.

تبقى طاولة المفاوضات وسيلة قادرة على امتصاص، كافة أنواع الاحتقان في العديد من الخلافات، فالحوار المباشر يزيل الكثير من المخاوف، ويخلق حالة من الارتياح الداخلي، مما يمهد الطريق أمام وضع الخطوات العملية، لإعادة ترميم العلاقات بين أطراف الخلافات، بحيث ينعكس على إزالة الحواجز المعنوية، التي ساهمت في إظهار الخلافات على السطح، في البيئة الاجتماعية.

كاتب صحفي