آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 12:36 ص

«الجنرال في متاهة»!

ميرزا الخويلدي * صحيفة الشرق الأوسط

لم يكن السودان في أحسن أحواله شتاء 1953 حين هاجر عنه الطيب صالح إلى المملكة المتحدة، كانت بريطانيا للتو منحت السودان حكماً ذاتياً، بعد طول احتلال قبل أن ينال استقلاله مطلع عام 1956. ولكن المدهش أن الطيب الصالح الذي سيصبح «عبقري الرواية العربية» بعد أن حطّ رحله في لندن، وعمل مذيعاً في «البي بي سي»، وتعرّف على العالم الجديد ونعيمه ورفاهيته، ضاق ذرعاً بحياته في عاصمة الضباب لندن، وسرعان ما استبدّ به الحنين لقرية «كَرْمَكوْل» الواقعة قرب قرية «دبة الفقراء» في إقليم مروي شمال السودان، كتب يقول: «جئت إلى بلد لم أكن أرغب فيه، لأعمل عملاً هو كذلك ليست لي رغبة فيه، تركت الأهل والأحباب والدور الفسيحة، لأجد نفسي داخل غرفة صغيرة برودتها لا تطاق، في بلد غريب بين قوم غرباء!».

مع الأيام تأقلم مع الحياة هناك، بل إنه تزوج في لندن من بريطانية وأنجب منها بناته: زينب وسميرة وسارة.

نشر الطيب الصالح رائعته «موسم الهجرة إلى الشمال» في عام 1966، طارحاً سؤال الهوية في مرحلة ما بعد الاستعمار، وجدل العلاقة بين الشمال والجنوب في السودان، والصراع الحضاري بين الشرق والغرب، ورغم تنقلاته الكثيرة، ظلّ وفيّاً لأرض جدوده ومنابت أسلافه، حتى خاطبه الشاعر سيد أحمد الحردلو قائلاً: «اسمك صار وطناً».

كيف يقرأ الأديب سيرة الحروب في الأوطان..؟ كتب الطيّب مقالاً في ذروة اليأس من الأوضاع المأساوية في السودان نشره في صفحته الأخيرة في مجلة «المجلة» أواخر عام 1991 بعد أشهر من انقلاب البشير، وأعادت المجلة نشره مع اندلاع الصراع الأخير بين جنرالات السودان، كان عنوان المقال: «من أين جاء هؤلاء؟»، وفيه يتساءل الطيب صالح: هل السماء ما تزال صافية فوق أرض السودان، أم أنهم حجبوها بالأكاذيب؟ «هل مطار الخرطوم ما يزال يمتلئ بالنازحين يريدون الهروب إلى أي مكان؟ فذلك البلد الواسع لم يعد يتسع لهم. كأني بهم ينتظرون منذ تركتهم في ذلك اليوم عام ثمانية وثمانين. يُعلن عن قيام الطائرات ولا تقوم. لا أحد يكلمهم. لا أحد يهمه أمرهم».

«من أين جاء هؤلاء الناس؟ أما أرضعتهم الأمهات والعمات والخالات؟ أما أصغوا للرياح تهبُ من الشمال والجنوب؟ أما رأوا بروق الصعيد تشيل وتحط؟ أما شافوا القمح ينمو في الحقول وسبائط التمر مثقلة فوق هامات النخيل؟ أما سمعوا مدائح حاج الماحي وود سعد، وأغاني سرور وخليل فرح وحسن عطية والكابلي مصطفى؟ أما قرأوا شعر العباس والمجذوب؟ أما سمعوا الأصوات القديمة وأحسوا الأشواق القديمة؟ ألا يحبون الوطن كما نحبه؟ إذا لماذا يحبونه وكأنهم يكرهونه ويعملون على إعماره وكأنهم مسخّرون لخرابه؟».

كان السودان الذي يحرقه العسكر المتحاربون، أيقونة العرب جميعاً، كل عربي يبني قوته الناعمة بعناء، أما السوداني فلديه موهبة القبول أينما حلّ! في الأربعينات كتب أحمد شوقي، قصيدة «السودان» وغنتها أم كلثوم، وفيها: «وقى الأرض شر مقاديره/ لطيف السماء ورحمانها/ ونجى الكنانة من فتنة/ تهددت النيل نيرانها/ ولن نرتضي أن تُقَد القناة/ ويُبتَر من مصر سودانُها/ فمصر الرياض، وسودانها/ عيون الرياض وخلجانُها».

في كتاب بعنوان «ذكريات مع نزار قباني»، يورد الكاتب السوداني أحمد سعيد محمدية، ما قاله الشاعر نزار قباني عن انطباعاته عن السودان وأهلها، وقد زارها مرتين الأولى عام 1968، والثانية عام 1970. وحظي في كلتيهما باستقبال حافل، كتب بعدها يقول: «يسمونني في كل مكان شاعر الحب، ولكنني هنا أشعر أنني أسقط في الحب للمرة الأولى، فالسودان بحر من العشق أغرق جميع مراكبي وأسر جميع بحّارتي». «اكتشفت أن السودان يسبح في الشعر، كما تسبح السمكة في الماء، وأن السودان بغير الشعر كيان افتراضي ووجود غير قابل للوجود».

الحروب كلها مآسٍ وفجائع يدفع ثمنها من لا ناقة لهم بها ولا جمل، ومصيبة الحروب أن الجميع يصل متأخراً إلى القناعة التي أكدها تولستوي: «بصورة عامة لن يكون البارود صاحب الكلمة الأخيرة... بل إن الكلمة ستكون للذين اخترعوا البارود»، لكن «الجنرال في متاهة» كما يقول غابرييل غارثيا ماركيز، في روايته الشهيرة.