الوطنية في تجربة ومواقف نصر الله
الحمد لله الذي جعل حب الأوطان من الإيمان، والصلاة والسلام على رسول الله وآله في كل حين وآن.
لقد فطر الله الإنسان على حب وطنه، والانتماء إليه، والاعتزاز به، والوفاء له، والدفاع عنه، والتضحية في سبيله بكل غال ونفيس متى استدعى الأمر ذلك.
بل لو قلنا: إن حب الإنسان لوطنه لا يقل عن حبه لنفسه إن لم يزد عن ذلك لما عدونا الحقيقة، ومن الأدلة العملية على ذلك أن الإنسان يدافع عن وطنه إلى حد أن يضحي بنفسه في سبيله، وذلك من باب فداء الأعلى «وهو الوطن» بالأدنى «وهي النفس»
وما أجمل ما وصف به محمد بن فنخور العبدلي العلاقة بين المواطن والوطن بقوله: «إن الإنسان بلا وطن هو كيان بلا روح، والإنسان بلا وطن جسد بلا إحساس، فالفاقد للوطن فاقد للأمن والاستقرار، والفاقد للأمن والاستقرار فاقد للاطمئنان، والوطن بلا أمن واستقرار غابة يعيش فيها القوي ويهان فيها الضعيف».
ولعله لهذا اعتبر القرآن الكريم التكليف بالخروج من الوطن شاقا وعسيرا، بل هو شبيه بقتل الإنسان لنفسه، كما يشير إلى ذلك في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ ۖ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا﴾.
والمعنى: إننا لم نكلفهم بما هو شاق وعسير عليهم، وذلك بأن نفرض عليهم قتل أنفسهم، أو أن يخرجوا من ديارهم «التي هي أوطانهم» ولو أننا كلفناهم بذلك لما فعلوه لما في ذلك من حرج كبير، وصعوبة بالغة، لا يقوى عليها ولا يتحملها إلا القليل من الناس ممن وصلوا إلى أعلى درجات الإيمان واليقين بالله، والتسليم المطلق له عز وجل.
وفي هذا المعنى ينقل الشيخ ناصر مكارم الشيرازي عن بعض المفسرين قوله عند تفسير هذه الآية: «إن مسألة الاستعداد للقتل تشبه مسألة الخروج عن الوطن من جهات عديدة، لأن البدن وطن الروح الإنسانية تماما كما أن الوطن مثل الجسم الإنساني، فكما أن التغاضي عن ترك وطن الجسم أمر صعب، كذلك التغاضي عن الوطن الذي هو مسقط رأس الإنسان ومحل ولادته ونشأته».
فالإنسان وطني بالفطرة، يحب وطنه حبه لنفسه وأكثر، ويعشقه من أعماق قلبه، ولا يمكن أن يقدم على وطنه أي وطن آخر، أو يفضله عليه، حتى ولو كان ذلك الوطن الآخر أفضل في كل شيء، أو كان ذلك الإنسان يعاني في وطنه من الظلم والقهر وسلب الحقوق... فكل ذلك لا يغيّر من حبه لوطنه شيئا، تماما كما أشار إلى ذلك أحد الشعراء بقوله:
بلادي وإن جارت عليّ عزيزة وأهلي وإن ضنوا عليّ كرام.
أما الذين يخونون أوطانهم، أو يتآمرون عليها، أو يجرمون بحقها، فإنما يكون ذلك منهم لانحرافهم عن الفطرة السوية التي فطر الله الناس عليها، وبسبب الأطماع وغلبة الشهوات، تماما كانحراف الإنسان عن أي أمر فطري آخر - كالدين مثلا - بسبب المؤثرات الخارجية، وغلبة الشهوة، وعبادة الهوى، وما شابه ذلك من أمور، أما الأصل فهو الحب الفطري للوطن من غير شك في ذلك ولا ريب.
ومن المهم أن نشير - هنا - إلى أن حب الوطن لا يعني فقط التغني بأمجاده، والاعتزاز به، مع غض الطرف عما هو فيه من عيوب، وما هو مبتلى به من مشاكل، فهذا حب أعمى، أو مفهوم خاطئ للوطنية ولحب الوطن، والشعور بالانتماء إليه، والعمل على أمنه واستقراره.
أما الحب الحقيقي للوطن، والمعنى الصحيح للوطنية الصادقة والواعية، والتي من شأنها أن تساهم في بنائه، وتحقق الرفاهية والسعادة لأبنائه، فهي التي تجمع بين الأمرين:
الأول: الحفاظ على ما فيه من إيجابيات، والعمل على تطويرها من جهة.
الثاني: الاعتراف بما هو موجود فيه من سلبيات، والعمل على حلها من جهة أخرى.
بل ربما الالتفات إلى السلبيات والعمل على حلها، هو الأهم في الموضوع، لأن ذلك هو الذي يخلص الوطن مما هو موجود فيه من مشاكل، ويحميه من شرها، وينقذه من آثارها الكثيرة الكبيرة الخطيرة، التي قد تدمره، ولا أقل من أنها تعيقه عن الرقي والتقدم والازدهار.
وربما مما لا يختلف فيه اثنان أن عضو مجلس الشورى السابق، الإعلامي الكبير، والصحفي القدير، الأستاذ محمد رضا نصر الله مثال المواطن الصالح، ومجسد حقيقي للوطنية الصادقة في أقواله وأفعاله ومقالاته ومواقفه على حد سواء.
ويتجلى ذلك - بكل وضوح - في كل ما قدمه لهذا الوطن العزيز الكريم من خدمات وطنية كثيرة وكبيرة على أكثر من صعيد وصعيد، وذلك بفكر ووعي، وفطنة وحكمة، ووضوح وصراحة، وجرأة وشجاعة، وإخلاص ووفاء في خدمة هذا الوطن المعطاء من أدناه إلى أقصاه.
فلسعادته الكثير جدا من المواقف والمقالات والحوارات الوطنية المتنوعة، التي شملت الشأن الديني، والاجتماعي، والأخلاقي، والتعليمي، والثقافي، والاقتصادي، والبيئي، والإداري، والسياسي... وإلى غير ذلك من القضايا والمواضيع التي تصب في مصلحة الوطن والمواطن على حد سواء.
وهو في ذلك كله يعمل وفق المنهجين اللذين أشرنا إليهما من تعزيز الإيجابيات، ومعالجة السلبيات.
ومن الصعوبة بمكان أن نتحدث عن جميع مقالاته ومواقفه الوطنية، أو أن نقدم عرضا وافيا لها، وذلك لكثرتها وتنوعها كما أشرنا، ولذا فإننا سنكتفي بتسليط الضوء على بعض مواقفه ومقالاته فيما يتعلق بموضوع هو من أهم وأخطر المواضيع الوطنية والإنسانية، وهو موضوع نبذ الطائفية، والدعوة إلى اللحمة الوطنية بين أبناء الوطن الواحد، كون هذا الموضوع من أهم المواضيع التي نحتاجها لنعيش في ألفة ومحبة وأمن وسلام، ولنحفظ وطننا من كل شرّ وفساد ودمار.
ولعله لا يختلف اثنان في أن أهم أمر يمكن أن يقضي على الجريمة والإرهاب، ويعزز السلم الأهلي، ويحقق الأمن والاستقرار، ويكفل للجميع ما لهم من حقوق ويلزمهم بما عليهم من واجبات على قدر واحد من المساواة، هو تجسيد الوحدة الوطنية بين جميع مكونات الوطن الواحد، بغض النظر عن عقائدهم الدينية، ومناطقهم الجغرافية، ومستوياتهم الثقافية والاجتماعية...
وربما لا يختلف اثنان أيضا في أن أهم أمر يمكن أن يؤسس للفرقة والاختلاف، ويمزق الوحدة والائتلاف، ويزرع العداوة والبغضاء بين أبنا الوطن الواحد هو «الطائفية» وذلك لقناعة الطائفيين باحتكارهم للحقيقة المطلقة، ومصادرتهم لكل من يختلف معهم في رأي أو معتقد، وعملهم على محاربته وإقصائه، وحرمانه من حقوقه، بل وإسقاطهم لحرمته، وهدرهم لدمه، وإباحتهم لقتله، وسبي نسائه، ونهب أمواله وممتلكاته.
ونحن لا نشك في أن جل المشاكل المعقدة، والمصائب التي حلّت بالبشرية، وكلفتها الكثير من الخسائر في الممتلكات والأنفس والأرواح، وأدت إلى تدمير الدول والبلدان، وزعزعت الأمن والاستقرار، كلها بسبب الطائفية البغيضة، سواء كانت عرقية، أم قبلية، أم مناطقية، أم دينية، أم مذهبية، أم فكرية، أم غيرها.
فالطائفية أس كل بلاء، ومنجم كل شر، وسبب كل فساد في الأرض، وإزهاق للنفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق.
وانطلاقا من وعي نصر الله لخطر الطائفية، وما لها من تأثير سلبي كبير على اللحمة الوطنية، أصبح موضوع نبذ الطائفية، والدعوة إلى اللحمة الوطنية من أهم المواضيع الكبيرة التي شغلت فكره كثيرا، وله في ذلك الكثير من المقالات المكتوبة المنشورة، والمواقف العملية المعروفة، وهي متنوعة ما بين الحث على الوحدة الوطنية، والتكافل الاجتماعي، والتحذير من الطائفية، والتعبير عن الألم لانتشارها في وطننا الغالي علينا جميعا، والدعوة إلى محاربتها، وصولا إلى المطالبة بتجريمها... وإلى ما هنالك مما كتبه من مقالات، واتخذه من مواقف.
وقد اتخذت دعوته هذه أشكالا متعددة، بأساليب متنوعة، ومن ذلك ما يلي:
كان نصر الله دائما يؤكد على أن الوطن للجميع، وكلهم فيه سواء، وعلى هذا الأساس يجب أن يكون التعامل مع الجميع بعيدا عن التحزبات الطائفية المذهبية، والمناطقية الجغرافية، أو غيرها مما يمكن أن يؤدي إلى الظلم والاقصاء، ويسبب الكثير من المشاكل المعقدة، ويهدد الوحدة الوطنية والسلم الأهلي.
لذلك هو يبغض الطرح الطائفي بكل أشكاله وألوانه، ويدين الإقصاء لأي مكوّن من مكونات الوطن الواحد، سواء كان ذلك الإقصاء من منطلق طائفي مذهبي، أم قبلي، أم مناطقي، أم أي منطلق آخر، فالوطن لجميع أبنائه، وكلهم له أيضا، وعليه لا يصح أن نحرم الوطن من الاستفادة من طاقات وإمكانات أبنائه، كما لا يصح أن نحرمهم الاستفادة من خيراته.
ولهذا كان نصر الله وما زال يكره العنصرية بكل ألوانها، ويدين الطائفية بكل أشكالها، ويحاربها بكل مظاهرها، ويدعو إلى العدل والمساواة في الحقوق والواجبات، ويحث على إتاحة الفرص الوظيفية والتعليمية والاجتماعية والسياسية... لجميع أبنا الوطن، ليتمكنوا من خدمة وطنهم في مختلف المجالات، من دون أية تفرقة بين جميع أبناء الوطن.
وله في هذا الكثير من المواقف والمقالات الجريئة الصريحة، منها مقالته «ديرة الجميع» التي أكد فيها أن مملكتنا الحبيبة هي مملكة الجميع، وعليه يجب أن تتاح الفرصة للجميع في العمل على خدمتها، ورفع مكانتها في العالم، بدل التعامل بسياسة الإقصاء الطائفي أو المناطقي أو غيرهما، مما يؤدي إلى الفتن من جهة، وظلم ذوي الكفاءات من جهة ثانية، وحرمان الوطن من الاستفادة من تلك الكفاءات والطاقات من جهة ثالثة، وإلى أمور أخرى جدا مهمة سلط نصر الله الضوء عليها في هذه المقالة المهمة.
فقد افتتح مقالته هذه بالتأكيد على أن إعادة نشر مقالة المؤرخ والأديب والصحفي السيد أمين مدني في جريدة «الجزيرة» بما فيها من ضرب على أوتار حساسة طالما تجاهلها «نصر الله والمخلصون لأوطانهم» حفظا للوطن، ومحافظة على سلامته وسلامة أبنائه من الفتن، رغم العزف المتواصل عليها، الذي طالما سمعوه وما زالوا يسمعونه ليلا ونهارا، وسرا وجهارا منذ توحيد المملكة إلى يوم الناس هذا، قد هزّته من الأعماق هزاً عنيفا.
فالمفروض أن المملكة توحدت تحت راية الملك المؤسس لتكون للجميع، وفق سياسة «تذويب أحاسيس ما قبل قيام مجتمع الدولة، على درب صياغة شخصية وطنية واحدة لا عوج فيها من اعوجاجات القبلية والطائفية والإقليمية، حيث المملكة بأطرافها المترامية من الشمال إلى الجنوب، ومن الحجاز إلى الأحساء، عبر الرياض، هي مسقط رأس واحد لكل مولود فوق أرضها»
وفي التعبير عن ألمه لعدم تحقيق مشروع الوحدة الوطنية، الذي هو شعار الملك المؤسس للمملكة، يطرح سؤالا كبيرا عن دور المؤسسات الإدارية والهيئات التعليمية في ذلك: «فهل نجحت الجامعات، والمعاهد، والمدارس، ومؤسسات العمل والإدارة في إضافة هذا البعد الوحدوي في نشاطها؟!
وبسؤال صريح لا لبس فيه: ماذا أضفنا إلى مشروع الملك عبد العزيز عبر هذه السنوات والعقود من عمر الوحدة؟!»
وهو سؤال كبير يحمّل تلك المؤسسات والهيئات المسؤولية الكبيرة، ويوجه إليها اللوم والعتب في عدم تبنيها الجاد لذلك المشروع الحيوي، وعملها على تحقيقه.
وفي مورد آخر من مقالته يحدثنا نصر الله عن بعض رجال الملك المؤسس المساهمين في توحيد المملكة وبناء الوطن، كما يخبرنا عن علاقاتهم مع الآخرين، وتواصلهم معهم، وانفتاحهم عليهم، ثم يتساءل - بحسرة وألم - عن أبنائهم وأحفادهم: أين هم اليوم؟!
ولا ينتظر جوابا من أحد، بل هو يعطينا الجواب مؤكدا أنهم: «موجودون في مؤسسات الدولة وفعاليات المجتمع، تراهم في الوزارات، ومجلس الشورى، وقطاعات الجيش والتعليم والإدارة، والأعمال الخاصة، منهم بارزون وآخرون مزويون، لكن هل هم متطبعون بمشروع الوحدة؟!»
وهذا تقريع كبير وتحميل كامل المسؤولية لهؤلاء الأبناء والأحفاد بإفشال مشروع الوحدة الوطنية، بسبب عدم التطبع به، والإهمال له، ولا أقل من أنه مطالبة جادة وصادقة لهم بالعمل الجاد على تحقيقه.
أما حالة الإقصاء المناطقية فيؤكد نصر الله أنها كبيرة وخطيرة جدا، ولا تتوافق مع مشروع الوحدة الوطنية، ولا سياسة أن الوطن للجميع، ومن أسباب ذلك أن جامعاتنا ومؤسساتنا التعليمية «ليست سوى صورة نخبوية لهوية الإقليم!!»
كما يبدي حيرته الكبرى، ودهشته العظمى من عدم تقلد سكان بعض مناطق المملكة للمناصب الرفيعة، فهو لا يعلم مثلا «لماذا - بعد هذا العمر الوحدوي المديد - لا يتبوأ إدارة الجامعة في الرياض حجازي أو حساوي - أحسائي - كما يتبوأها في الحجاز نجدي أو جنوبي، انسجاماً مع دعوة الملك عبد العزيز المبكرة، وهو يرد على واحد من جلسائه الإقليميين: الحجاز ديرة النجدي، ونجد ديرة الحجازي؟!»
فإذا كانت الديرة للجميع فلماذا لا يتشارك في بنائها الجميع؟!
ويختم نصر الله مقالته الوطنية هذه بالتأكيد على أن الدول التي استطاعت أن تتقدم وتبني نفسها، إنما استطاعت تحقيق ذلك لنبذها للطائفية والعصبية، وتطبيقها مشروع الوحدة الوطنية، وتقديرها للكفاءات والطاقات والقدرات، وعدم تعاملها بقانون الإقصاء، انطلاقا من قاعدة الوطن للجميع والجميع للوطن.
يقول نصر الله: «وساءلت نفسي مرة هنا: كيف وصلت مادلين أولبرايت التشيكية الأصل والمولد والنشأة، إلى منصب الرجل الثاني في إدارة أقوى دولة في العالم؟!
ولم أجد جواباً على هذا السؤال الذي يقض مضاجعنا المسكونة بثقافة عبد الله بن سبأ الوهمية!! سوى أنهم في أمريكا وغيرها من الدول المتقدمة، تركوا مخلفات التراث الاجتماعي وراء ظهورهم، وانطلقوا يبنون دولهم، وهي تتجاوز حالة الوطنية والقومية إلى عولمة المشاعر والثقافة نحو المستقبل، باحثين عن مواقع أفضل لأبنائهم وأحفادهم دون ”فيد“ أو تمييز! متحررين من تركة الماضي، لأن الوطن هناك ديرة الجميع بالتساوي في الحقوق والواجبات»
وانطلاقا من إيمان نصر الله الراسخ بأن الوطن للجميع والجميع للوطن، جاءت دعواته الكثيرة المتكررة إلى احتواء الشيعة، والاعتراف بهم كمكون أساس من مكونات الوطن، وإلى إتاحة الفرصة لهم لخدمة وطنهم من خلال إشراكهم في عملية البناء الاجتماعي والثقافي والسياسي، أسوة بإخوتهم من المذاهب الأخرى.
ومن ذلك أنه في مداخلة له مع الإعلامي خالد مدخلي في برنامج «شيعة الخليج في صميم أهل الخليج» أكد نصر الله على أن شيعة الخليج عرب أقحاح، ينتهون إلى قبائل عربية عريقة، هي عبد القيس وبكر بن وائل، مستدلا على ذلك بما جاء في أطروحة أستاذ علم الاجتماع الكويتي الدكتور محمد غانم الرميحي، الذي وجد أن «لفظ ”البحارنة“ تعني أن كل من يأتي للبحرين سواء كان من القبائل العربية أو غيرها أيضاً، فيجدون هؤلاء السكان الأصليين هم البحارنة من قبائل عربية عريقة»
وفي المداخلة ذاتها نفى نصر الله عن الشيعة تهمة الولاء لإيران على حساب الوطن، أو أنهم قد استجابوا لما أسماه مقدم البرنامج «المحاولات الإيرانية لاستخدام ورقة الشيعة العرب في الصراعات الإقليمية» وأشاد بوطنيتهم، وأكد إخلاصهم لأوطانهم، مقدما العديد من الشواهد العملية على ذلك، التي كان منها تصويتهم على استقلال البحرين عن إيران، وتأكيدهم على أن البحرين عربية، وكذلك موقف شيعة السعودية في حرب الخليج وتحرير الكويت من الاحتلال العراقي بغزو صدام حسين، وأنهم وجهوا الدعوات الأكيدة إلى الدفاع عن مملكتهم الحبيبة، ودرء العدوان الغاشم عليها، والوقوف بكل حزم وصلابة أمام كل ما يهدد أمن المملكة وسلامتها، أو يهدد سلامة الوحدة الوطنية، والتراب السعودي.
كما أكد على أن للشيعة الكثير من الجهود والمساعي في الانفتاح على حكومات أوطانهم، والتصالح معها، موضحا بعض الجهود التي قامت بها شخصيات علمية ودينية في هذا المجال سواء في الدول الخليجية أم غيرها، ومن ذلك تأكيد العلامة الكبير الشيخ محمد مهدي شمس الدين على أن ولاء الشيعية إنما هو لأوطانهم، وكذلك دعوة السيد هاني فحص للمصالحة الوطنية.
وفي الدعوة إلى الانفتاح على الشيعة، والاعتراف بوطنيتهم، والعمل على دمجهم بالمجتمع، وعدم التفريق بينهم وبين سائر إخوتهم المواطنين من المذاهب الأخرى، قدم نصر الله «عمان» كنموذج يحتذى به، قائلا: «رغم أن الشيعة في عمان نسبة قليلة جداً، ولكن من يدخل المسجد في أحد مدن عمان سوف يجد الإباضي والسني والشيعي الكل يصلي جنباً إلى جنب، حيث أن معتقداتهم المذهبية لم تقف أمام الولاء للوطن».
أما حين طالت يد الإرهاب الكريه مملكتنا الحبيبة، مستهدفة طائفة من طوائفها المذهبية، وفجرت مآتم ومساجد الشيعة في الأحساء والقديح والدمام، لم يقف نصر الله متفرجا، بل حسه الوطني الكبير، وشعوره بالمسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتقه في وجوب الوقوف أمام هذا الإرهاب الغاشم، والعمل على حماية مملكتنا من شره المستطير، جعله يقف وقفات وطنية مشرفة في إدانة ذلك الإرهاب الكبير، والدعوة إلى تجريمه، والضرب بيد من حديد على كل يد خائنة تمتد لتعبث بأمن المملكة، وتستهدف أي مواطن من مواطنيها، أو أي طائفة من طوائفها، مع التأكيد على عدم التهاون في ذلك أبدا وعلى الاطلاق.
ومن مواقفه الرائعة في ذلك دعوته لهيئة كبار العلماء إلى الانفتاح على جميع الطوائف، والاعتراف بجميع المذاهب الإسلامية في المملكة.
وعن هذا الموقف الوطني الرائع كتبت صحيفة ”القطيف اليوم“ تحت عنوان ”بالفيديو نصر الله يدعو هيئة كبار العلماء للاعتراف بالتنوع المذهبي“ نصا: «دعا عضو مجلس الشورى محمد رضا نصر الله لوقفة وطنية حاسمة بعد العمليات الإرهابية التي طالت المساجد، وذكر أن كل الجهات وبقية مؤسسات الدولة تحتاج للمساهمة مع وزارة الداخلية إلى صياغة استراتيجية وطنية للإرهاب، وأكد بأن على هيئة كبار العلماء أن تعترف بالتنوع الثقافي والمذهبي في المملكة العربية السعودية، والتي فيها مذاهب إسلامية معتبرة، وذكّر بموقف الملك عبد العزيز بعد حادثة السبلة المشهورة حين قال: أنا لدي مواطنون يتبعون مذاهب إسلامية معتبرة.
وذكر نصر الله إنه تفاعل وأسعد بما جاء في بيان هيئة كبار العلماء، ولكن الديباجة فيه حصرها في المذاهب الإسلامية الأربعة، بينما في المملكة يوجد مذاهب إسلامية سبعة: الإمامية الاثني عشرية والإسماعيلية والزيدية... لهذا لابد أن نعترف بالمذاهب الإسلامية ما دامت المشتركات متفقاً عليها»
والحق أن الدعوة إلى الاعتراف بجميع المذاهب، والتأكيد على أنها جميعها في دائرة الإسلام، وأن ما هو موجود بينها من اختلاف عقائدي وفقهي هو أمر طبيعي، ولا يخرج أياً منها من الدين، دعوة واقعية جدا، ومنسجمة مع ما جاء في النصوص الدينية التي تؤكد على أن كل من شهد الشهادتين فهو مسلم، يحرم دمه وماله وعرضه، كما أنها أفضل حل لسد باب التكفير، والقضاء على الطائفية، والتخلص من آثارها المدمرة، وأيضا هي دعوة تؤسس لثقافة الاختلاف وقبول الآخر، وتحقق الوحدة الإسلامية، وتحفظ اللحمة الوطنية «وعليه فلابد من القول بإسلام الجميع، وعدم إخراج أي طائفة من الدين لمجرد وجود بعض الاختلافات الفقهية أو العقائدية بينها وبين الطائفة الأخرى، كما لابد أن نفهم ونقوم بإفهام الآخرين بأننا لسنا أوصياء على الناس لنجبرهم على سلك هذا المنهج أو ذاك، أو إتباع هذا المذهب أو ذاك، كما أن الله عز وجل لم يجعلنا موكلين على جنته وناره، لندخل من نشاء الجنة، ونرمي من نشاء في النار، فالله هو رب العباد، وهو المتكفل بمحاسبتهم على أعمالهم ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾.
ومع ضرورة نشر هذه الثقافة في الوسط الاجتماعي، لابد من دعوة المتطرفين إلى الكفّ عن إثارة الفتن الطائفية، وإصدار الفتاوى التكفيرية، وإن لم يستجيبوا فليضرب أصحاب الشأن والقدرة عليهم بيد من حديد، وليعمل العلماء والمفكرون من سائر الفرق الإسلامية على تثقيف المجتمع، ورفع مستواه العلمي والفكري، والعمل على إيجاد الوعي الكامل لدى سائر الناس، لنحصنهم من الانزلاق في هذه المتاهات».
وكما طالب نصر الله بالاعتراف بالتنوع المذهبي، كذلك طالب - تحت قبة مجلس الشورى - بسن قانون يجرّم الطائفية، ويعاقب من يدعو إليها، مع التطبيق العملي لهذا القانون باعتباره أفضل طريق لحل مشكلة الإرهاب، واقتلاعها من جذورها، موجها دعوته هذه إلى كل الجهات المسؤولة في الدولة.
وقد كان هذا الموقف الجريء الشجاع منه بعد موقفه في كلمته التي ألقاها في تشييع شهداء الدالوة، والتي أكد فيها على ضرورة الاعتراف بجميع مكونات ومذاهب الشعب السعودي، والدعوة إلى تجريم الطائفية بكل أنواعها.
ونظرا لقيمة وأهمية هذا الموقف بما ينطوي عليه من مطالب وطنية صادقة من شأنها أن تساهم إلى حد كبير جدا في حفظ أمن الوطن واستقراره، اهتمت الصحف به اهتماما كبيرا، وتمت تغطيته من قبل أكثر من جريدة وجريدة، كالرياض واليوم وغيرهما.
ولا بأس أن ننقل ما جاء في تغطية جريدة الرياض بطوله تحت عنوان: ”عضو الشورى نصرالله يطالب بنظام يُجرّم التمييز المذهبي والقبلي والمناطقي“ فقد جاء في هذه التغطية نصا: «أفصح عضو مجلس الشورى محمد رضا نصر الله يوم أمس في مداخلة استبقت مناقشة بنود جلسة الشورى العادية عن عزمه والعضو ثريا عبيد على تقديم توصية عند عرض لجنة حقوق الإنسان تقرير الهيئة العامة لحقوق الإنسان، تطالب بتجريم الطائفية، لتنتهي بمشروع نظام يعاقب كل من يخرج على الإجماع الوطني، سواء كان ذلك من خلال التمييز المذهبي، أو القبلي، أو المناطقي.
وقال نصر الله في مداخلة تحت قبة الشورى متحدثاً عن حدث ”قرية الدالوة“: لقد تجلّت أروع معاني التكاتف بين الدولة والمجتمع في هذا الحدث، أدعو مجلس الشورى - بوصفه مجلسا للتشريع وصناعة القوانين - أن يبادر من فوره نحو سنّ نظام واضح في مراميه، وصارم في تطبيقاته، مجرّما كل مثير للطائفية، وأي متورط في فعلها، لنحمي بلادنا من شرورها، مؤكدين على ضرورة نزع أية كلمة من مناهج التربية والتعليم، وحذفها من أية وسيلة من وسائل الإعلام المرئي والمسموع والإلكتروني، ومصادرة أي كتاب أو مطبوعة، تدعو إلى الفرقة والتمييز الطائفي، أو القبلي، أو الإقليمي، أو المناطقي.
دعوة وزارة الإعلام والحوار الوطني لصياغة خطاب ثقافي لكل أطياف المجتمع ومكوناته.
وأضاف نصر الله: وأدعو - من هنا - وزارة الثقافة والإعلام، ومركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني، نحو المسارعة لصياغة خطاب ثقافي وطني لكل أطياف المجتمع السعودي ومكوناته، انطلاقا من مواد النظام الأساسي للحكم، الناصة على لمّ الشمل الوطني، ومعاقبة الخارجين عليه.
وطالب نصر الله وزارات الشؤون الإسلامية، التربية، التعليم العالي، والشؤون الاجتماعية، والرئاسة العامة لرعاية الشباب مساندة وزارة الداخلية في جهودها بمحاربة الإرهاب عبر صياغة إستراتيجية وطنية لمكافحة الإرهاب وتجفيف منابعه، فمشكلة التطرف والإرهاب مركبة ومعقدة، على جميع القطاعات الحكومية المختصة ومؤسسات المجتمع المدني تحمل المسؤولية الوطنية في مواجهتها، حتى تظل بلادنا آمنة موحدة مستقرة تحت قيادة مليكها وولي عهده الأمين.
وعلمت ”الرياض“ أن هناك توجها لتحرك فعلي يقوده عضوا مجلس الشورى محمد رضا نصر الله والدكتورة ثريا العريض، لسن قانون يجرم الطائفية.
ويعتزم العضوان تقديم مقترح لمجلس الشورى في الفترة القريبة القادمة، تمهيدا لسن نظام واضح في مراميه، وصارم في تطبيقاته لتجريم المنهج الطائفي، وشدد عضو المجلس محمد رضا نصر الله أمس على أن هناك تنسيقاً بهذا الشأن مع عضوة المجلس الدكتورة ثريا العريض.
وسبق أن دعا نصر الله في كلمته التي ألقاها في تشييع شهداء الدالوة في محافظة الأحساء ”الشورى“ على اعتباره مؤسسة يخولها النظام بإصدار القوانين لتبني الفكرة أمام نحو 70 ألف مشيع»
ولكن المؤسف حقا أن مجلس الشورى رفض حتى دراسة هذا المشروع، وصوت الأغلبية ضده، حتى أفشلوه وأسقطوه، فقد أيّده 47 عضوا، وعارضه 74 عضوا، وامتنع 11 عضو عن التصويت.
وكانت حجة المعارضين هي عدم ملائمة هذا المشروع، وأن هناك أنظمة يمكنها محاصرة ظاهرة الطائفية والتطرف، يمكن للمواطنين أن يرفعوا شكواهم إليها!
والعجيب أن هؤلاء الأعضاء حتى لم يحددوا هذه الجهات المعنية، التي تذرعوا بها في رفض هذا المشروع المهم جدا، لأنه - كما وصفه مذيع نشرة الرابعة في قناة العربية خالد مدخلي -: «يحمي الوحدة الوطنية، ويدعو إلى تجريم إثارة الدعوات العنصرية، أو المناطقية، أو المذهبية، وجميع الأفعال المؤدية إلى الإخلال بالوحدة الوطنية، أو إضعاف الجبهة الداخلية، إضافة إلى منع تكفير الآخرين، أو الإساءة إلى المقدسات الدينية، عبر سن قوانين واضحة ومحددة تفضي إلى عقوبات جزائية صارمة، وفرض غرامات تجاه المخالفين»
وهذا ما سبب الحزن والأسى لسعادة الأستاذ نصر الله، وجعله يصاب بخيبة أمل كبيرة، وكيف لا وهو يرى «المجلس المسؤول عن السلطة التنظيمية أو التشريعية لا يتقدم بمشروع نظام يحمي الوحدة الوطنية من كل ما يثير إلى سلامة مجتمعها الأهلي»
موضحا بأن النظام الأساس للحكم في مملكتنا العزيزة ينصّ «في مادته الثانية عشرة على أن حماية الوحدة الوطنية واجب»
ومؤكدا على أن موقف هؤلاء الأعضاء يتعارض تماما مع موقف وتطلعات الدولة، الحريصة على تحقيق الأمن والاستقرار، والتي «تمنع كل ما يبعث على الفتنة والانقسام، بل أن جميع الخطب التي توجه بها خادم الحرمين الشرفين الملك سلمان بن عبد العزيز منذ توليه كلها تشير إلى ذلك، فهو يقول في أول خطاب له أمام أصحاب السمو الملكي الأمراء، والمعالي الوزراء، وأصحاب الفضيلة العلماء، وأعضاء مجلس الشورى، بأن كل مواطن وكل جزء من أجزاء وطننا الغالي هو محل اهتمامي ورعايتي، فلا فرق بين مواطن وآخر.
ويؤكد في فقرة أخرى من الخطاب على حرصه للتصدي لأسباب الاختلاف ودواعي الفرقة، والقضاء على كل ما من شأنه تصنيف المجتمع بما يضر بالوحدة الوطنية، فأبناء الوطن متساوون في الحقوق والواجبات.
كل هذا مع مؤشرات بدت في الفترة الأخيرة تستدعي صدور مثل هذا النظام من مجلس الشورى»
ولأن المرحلة التي نعيشها، والأحداث المؤسفة التي مرت بها المملكة على أيدي الإرهابيين والتكفيريين، والتي من الممكن أن تزداد وتتفاقم ما لم يكن هناك مثل هذا القانون الصارم، الذي يجب المبادرة إلى تشريعه وتفعيله العملي بأقصى سرعة ممكنة، أصيب نصر الله بالدهشة والذهول، بل بالحزن العظيم، وخيبة الأمل الكبيرة، من عدم التصويت على هذا المشروع، الذي بكل أسف سقط سقوطا مدويا، لم يتوقعه نصر الله شخصيا، خصوصا «ونحن نعلم بأن المملكة في الفترة الأخيرة أحيطت بعدد من مشاكل تؤدي إلى التأثير على السلم الأهلي من قيام مجموعة من التكفيرين والإرهابيين والإقصائيتين من معاداة أبناء وطنهم، وهم منتمون كذلك إلى دينهم الإسلامي»
مؤكدا على «أن المجتمع السعودي هو مفطور على الطيبة والتآلف، ولكن ينبغي أن نبتعد عن كل هذه المؤثرات التي تحاول أن تحدث شروخا في الوحدة الوطنية.
اليوم نحن محاطون بسوار من نار من دول مضطربة، وهناك مشروعات تستهدف المملكة، ولذلك نحن اليوم أحوج ما نكون إلى تماسك الجبهة الوطنية، ومكافحة كل من يحاول المس بها، ويحرّض على الكراهية بين أبناء الوطن»
ولكن الجميل في الموضوع أنه رغم ما أصيب به نصر الله من إحباط وصدمة من مجلس الشورى وموقفه السلبي العجيب الغريب من هذا المشروع العظيم، الذي يصون البلاد والعباد، ويحفظ الممتلكات والأرواح، ويجتث أصول الشر والفساد، إلا أنه لم يصل إلى حدّ اليأس والقنوط، بل علق آماله الكبيرة على الدولة، وعوّل عليها في سن هذا القانون وتشريعه وتفعيله.
فالدولة بما تدركه من خطورة الإرهاب وأثره على أمن الوطن وسلامة المواطنين، وبما تملكه من قوة وحزم وصلابة في مواقفها وقراراتها، هي الوحيدة القادرة على ذلك، والتجارب الكثيرة تشهد أن الدولة «منذ أن تشكلت وفرض الحقائق الموضوعية في المجتمع السعودي دائما ما تأتي بقوة القرار السياسي، وذلك لأن الإيجابيات دائما ما تكون بقوة القرار السياسي»
وعلى أمل تحقيق ذلك ختم نصر الله تعليقه على إسقاط مجلس الشورى لهذا المشروع بأمنياته الحقيقية الصادقة المخلصة «بأن تقوم هيئة الخبراء - وهي مصنع القوانين في مجلس الوزراء - بإعداد مشروع نظام لحماية الوحدة الوطنية، والمسارعة بإصداره وتوجيهه إلى مجلس الشورى، وإذا أتى بتوجيه سام سوف ينجح بكل تأكيد».
ومما سبق أن قلته وهو يتوافق مع توجهات مملكتنا الغالية، وما يناشد به نصر الله وكل الوطنيين الواعين لأهمية اللحمة الوطنية، ووجوب تجريم الطائفية على المستوى العالمي بصورة عامة، والعالم الإسلامي بصورة خاصة، والمستوى الوطني بصورة أخص: «مهما كانت طموحات المجتمعات كبيرة في الوحدة والاعتصام بحبل الله المتين، فمن الصعوبة بمكان أن يتحقق لها ذلك الأمل ما لم تضطلع المؤسسات الرسمية في الدول الإسلامية بدورها الكبير والفاعل في تحقيق هذه الأمنية الغالية لشعوبها.
فمن المهم جدا أن تقوم الدول الإسلامية بكافة مؤسساتها الرسمية بدورها الفاعل في رعاية شعوبها من مختلف المذاهب رعاية كاملة، وتضمن لهم حريتهم المذهبية، وتعاملهم على أساس العدل والمساواة، وعدم التحزب لمذهب على حساب آخر، أو الاصطفاف وراء طائفة ضد أخرى، ولابد أن تسن القوانين التي تُجرّم الطائفية، وتعاقب عليها، وتضرب بيد من حديد على كل من يحاول العبث بأمن الدولة وسلامتها من خلال إثارة النعرات الطائفية البغيضة بين أبنا المجتمع الواحد، والدولة الواحدة».
مما سبق أن قلناه عن أهمية التلاقي بين علماء الأمة الإسلامية بمختلف طوائها ومذاهبها، ووجوب انفتاح بعضهم على بعض، وما يمكن أن يجنيه المسلمون من وراء ذلك: «إن لهذا الانفتاح فوائده الكبيرة، وثمراته العظيمة، التي يعمّ نفعها المجتمع بأسره، إذ متى رأى عامة الناس العلماء والمفكرين والمثقفين من مختلف الطوائف والمذاهب يلتقون ويتزاورون ويتحاورون، وبينهم علاقات وصداقات، ساهم ذلك - عمليا - في بناء عقولهم، وتنمية وعيهم، ليفهموا أن التعدد في المذاهب، أو الاختلاف في بعض القضايا العقائدية والفقهية أمر طبيعي جدا، وهو نتاج الاختلاف في ثبوت الدليل عند هذا وعدم ثبوته عند ذاك، أو هو بسبب الاختلاف في فهم الدليل، إذ خرج هذا الفريق منه بفهم يختلف عن فهم الآخر، فتنتهي بذلك العصبية والعنصرية بين عامة المجتمع، ويعيش الجميع في محبة وألفة ومودة».
ولقد كان نصر الله واعيا لهذا الموضوع كل الوعي، مدركا لقيمته وأهميته كل الإدراك، ولهذا أولاه جلّ العناية والاهتمام.
فعلى المستوى الشخصي هو منفتح على الجميع من دون استثناء، وله علاقاته الواسعة المتشعبة مع مختلف الشخصيات من مختلف الطوائف داخل المملكة وخارجها.
وفي برامجه الإعلامية الحوارية استضاف كل الشخصيات العلمية والفكرية والثقافية والأدبية من دون أن يلتفت إلى عقائدهم الدينية، أو انتماءاتهم المذهبية، أو توجهاتهم الفكرية، ويمكن للجميع أن يتأكدوا من ذلك من خلال الرجوع إلى تلك الحوارات، فهي أو الكثير منها موجود في قناته على اليوتيوب.
أما مقالاته الصحفية فالكثير منها في نقد الطائفية، ونبذ العنصرية، ومحاربة الكراهية للآخر، والدعوة إلى الإيمان بالتعددية، والتأكيد على أن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية، كما نرى ذلك بوضوح في عرضنا هذا.
ولم يقف الأمر لدى نصر الله عند هذا الحد، بل بذل جهودا كبيرة في العمل على تلاقي علماء المسلمين ومفكريهم، وزيارة بعضهم البعض الآخر، خصوصا في مملكتنا الحبيبة، إلى حدّ أن طلب من كبار الشخصيات مساعدته في الموضوع، ليعملوا على تذليل العقبات، وتمهيد الطريق له نحو تحقيق هذه الغاية النبيلة السامية، لما يترتب عليها من منافع جمة، وثمرات كثيرة، وفوائد عظيمة.
ومن اللحظات التي يعتبرها نصر الله «تاريخية» في حياته، تلك اللحظة التي تمنى فيها على صديقه العزيز، نائب أمير منطقة الرياض صاحب السمو الملكي الأمير سطام بن عبد العزيز السعي لدى مفتي المملكة العربية السعودية الراحل، الشيخ عبد العزيز بن باز ليقبل باستقبال وفد من علماء ووجاء وأعيان القطيف.
أما هدفه من وراء سعييه هذا، فقد أوضحه هو بأنه «محاولة لكسر الحاجز النفسي، ومحاصرة الفتاوى التكفيرية، المهيّجة للمشاعر ضد الطرف الآخر»
أما ما نقله له سمو الأمير سطام من موافقة الشيخ على استقبال ذلك الوفد، فقد اعتبره نصر الله مفاجأة عظيمة، وبشرى سارة جدا، وما ذاك إلا لأنه ربما لم يتوقع الموافقة، وأيضا لما يعقده من آمال كبيرة وأمنيات عظيمة على هذا اللقاء بما يمكن أن يؤسس له من لقاءات أخرى من شأنها أن تساهم في التقارب والانفتاح، وتمهد الطريق لقبول الآخر.
وتشكل الوفد القطيفي الذي وجّه نصر الله إليه نصائحه بعدم فتح أي موضوع خلافي، حتى لا يؤثر ذلك على اللقاء سلبا، وقد يفسد هدف الزيارة وغايتها الإنسانية السامية في تحقيق التقارب والانفتاح، وكسر الحواجز النفسية.
وتمت الزيارة، والتزم الوفد بنصيحة نصر الله، لولا أن الشيخ بن باز فتح نقاشا حول «توحيد الربوبية» ووجوب تنزيه الذات المقدسة عن كل ما يؤدي إلى الشرك، مما جعل الشيخ حسن الصفار يضطر لشرح مفهوم هذا التوحيد، ويبين له حقيقته عند الشيعة الإمامية، كما ذكر له أن العديد من علماء شيعة القطيف الكبار قد بحثوا هذا الموضوع بما لا مزيد عليه، وفيهم من ألف المؤلفات في ذلك، كما هو الحال في المجتهد الشيخ علي الخنيزي في مناقشته لعبد الله القصيمي حول «الصراع بين الإسلام والوثنية» بكتابه الرائع «الوحدة الإسلامية» كما كان الشيخ محمد صالح المبارك من المدافعين عن توحيد الربوبية، المؤكدين على الوحدة الإسلامية، الداعين إلى نبذ الخلافات المذهبية، وذلك في كتابه القيم «الدعوة إلى كلمة التوحيد»
أما عن ثمرة هذه الزيارة فيؤكد نصر الله على أنه «في نهاية اللقاء - وقد انكسر الحاجز - لم يتمالك الشيخ ابن باز نفسه، فراح يوجّه لوماً أبوياً لزواره ومواطنيه قائلاً: لماذا سكتم طوال كل هذا الوقت، وجعلتم الآخرين يبنون فرضيات الحكم بإقصائكم عبر ألسنة العوام، أما كان الأجدر أن يتم اجتماعنا قبل هذا اليوم؟!!».
ولا شك أن هذا من المواقف الكبيرة لنصر الله في عمله على لم شمل المسلمين، وتوحيد كلمتهم، خصوصا في المملكة العربية السعودية، التي هي قبلة المسلمين، ولها تأثيرها العالمي الكبير على جميع مسلمي العالم.
ونحن نسجل هذا الموقف الكبير لنصر الله، والذي اعتبره هو من لحظات حياته التاريخية بكل الإجلال والإكبار والتقدير، وإن كنا تمنينا لو أنه شكل الوفد من كامل المنطقة الشرقية بما في ذلك الأحساء، ليكون الانفتاح والتقارب أكبر وأوسع وأشمل، كما تمنينا أيضا لو أن الشيخ الصفار أوضح لسماحة المفتي أن الدور في توضيح توحيد الربوية والدفاع عنه هو على مستوى الطائفة الشيعية، وأشار إلى أن مختلف علماء الشيعة في كل العالم قد شرحوا ذلك، وألفوا فيه، وحاضروا عنه، تماما كما قام بذلك علماء أجلاء من القطيف جزى الله الجميع خير جزاء المحسنين.
وكم نأمل ونتمنى أن تتضافر الجهود في العمل على تلاقي المسلمين، وانفتاحهم على بعضهم البعض في كل دول العالم، وأن يعمل الجميع على نبذ الطائفية، ومحاربة العصبية، ليتوحد المسلمون جميعا تحت راية كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة.
من أهم العوامل الصانعة لشخصية الإنسان، المؤثرة في عقله وفكره، والموجهة لحركته وسلوكه في الحياة، والراسمة لطريقة تعامله مع الآخرين، هي «الثقافة التي يحملها» فإن كانت ثقافة واعية ومؤصلة وصحيحة صنعت منه إنسانا واعيا في عقله وفكره، منضبطا في حركته وسلوكه، والعكس صحيح.
أما المؤسسات الصانعة لهذه الثقافة، البانية لها، فكثيرة جدا، كالأسرة، ودور العبادة، والهيئات التعليمية بمختلف مراحلها، والإعلام بكل أقسامه وأنواعه وأشكاله، وإلى غير ذلك من العوامل المؤثرة في صنع ثقافة الإنسان سواء بشكل مباشر أم غير مباشر.
ونظرا لأهمية الثقافة في بناء شخصية الإنسان، ورسم منهج حياته وسلوكه من جهة، وأهمية دور تلك المؤسسات والهيئات وأثرها الفاعل في بناء تلك الثقافة وتأصيلها من جهة أخرى، أصبحت المسؤولية الملقاة على عاتق تلك المؤسسات والهيئات كبيرة جدا في نشر الثقافة الواعية والصحيحة، وتربية المجتمع عليها، وعلى رأس ذلك ثقافة الحب والتسامح، وقبول الآخر، والإيمان بالتعددية الفكرية والمذهبية، واحترام المقدسات، ونبذ العصبية والطائفية والإقصاء، ومحاربة الإرهاب والتكفير، والكراهية والبغضاء.
ومما يحسب لنصر الله في محاربته القوية للطائفية، ودعوته إلى اللحمة الوطنية، هو عمله الدؤوب على نشر هذه الثقافة في مقالاته ومواقفه وسلوكه العملي، وكذا دعوته لمختلف الهيئات والمؤسسات وتأكيده عليها أن تقوم بهذا الدور على أكمل وجه، باعتباره من أقدس الواجبات وأوجب المقدسات عليها.
فحين اكتوت المملكة العربية السعودية بنار الإرهاب، وطالتها يد الإرهابيين الحاقدة الآثمة، استضافت المملكة «المؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب» في العاصمة الرياض، بمشاركة قرابة الستين دولة إسلامية وعربية وأجنبية، وعدة منظمات دولية وإقليمية وعربية، وكانت انطلاقة المؤتمر يوم السبت 25 ذو الحجة 1425 هـ 5 فبراير 2005م.
أما المحاور التي تمت مناقشتها في هذا المؤتمر فهي أربعة على النحو التالي:
المحور الأول: جذور الإرهاب وثقافته وفكره.
وتمت مناقشته من قبل وفود مصر واليابان وألمانيا وتركيا، وشارك فيها وفود إيران والبرازيل والدنمارك وكندا والكويت ولبنان وماليزيا ومنسق العمل التابع للجنة العقوبات «1267» بالأمم المتحدة.
المحور الثاني: العلاقة بين الإرهاب وغسل الأموال وتجارة الأسلحة وتهريب المخدرات.
وافتتحت مناقشته سنغافورة والمملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية، وشارك فيها أعضاء من ممثلي دول أفغانستان وأوكرانيا وبلجيكا وتونس والسودان وقطر وكازاخستان وكينيا واليمن.
المحور الثالث: الدروس المستفادة من تجارب الدول في مكافحة الإرهاب.
وناقشته وفود المملكة المتحدة وباكستان والجزائر، بمشاركة من ممثلي دول أثيوبيا والأرجنتين واسبانيا والإمارات العربية المتحدة وإندونيسيا وإيطاليا وتنزانيا وروسيا وسوريا وطاجيكستان وسلطنة عمان.
المحور الرابع: التنظيمات الإرهابية وتشكيلاتها.
وكانت مناقشته من قبل وفود فرنسا والهند والصين، وشارك فيها دول الأردن واستراليا ومنظمة الإنتربول وأوزباكستان والبحرين وجنوب أفريقيا وسريلانكا والعراق والفلبين والمغرب وهولندا واليونان.
وتفاعلا مع هذا المؤتمر الدولي المهم والأول من نوعه في المملكة، وإيمانا منه بأهمية تضافر الجهود في محاربة الإرهاب، ومحاولة القضاء عليه، واقتلاعه من جذوره، كتب نصر الله عدة مقالات عن الإرهاب والتطرف، نشرها في زاويته «أصوات» من جريدة الرياض، ركّز فيها على الجانب المغيّب في المؤتمر، والمتمثل في بيان عدم كفاية الحل الأمني للمشكلة، والتأكيد على أهمية نشر الثقافة الصحيحة الواعية، التي من أسسها المتينة الانفتاح على الآخر، والإيمان بالتعددية، ودعوة جميع الدوائر والهيئات والمؤسسات إلى القيام بدورها في هذا المجال.
ففي مقالته الأولى «مكافحة الإرهاب مسؤولية عالمية» المنشورة في اليوم الأول لانعقاد المؤتمر، يشخّص نصر الله الإرهاب بأنه مرض ثقافي عام وعالمي، تعاني منه الإنسانية جمعاء، ودول العالم بأسرها، ويؤكد على أن السعودية من الدول التي اكتوت بنيرانه الحارقة.
وهذا تشخيص دقيق جدا، وفيه دلالة واضحة على صحة ما سبق وأشرنا إليه من أثر الثقافة في بناء أو هدم شخصية الإنسان، وتوجيه سلوكه نحو الخير أو الشر، فلا يمكن أن نتوقع من ثقافة الكراهية والتطرف غير الإقصاء والإرهاب والإجرام.
كما يعترف نصر الله - بشجاعة وموضوعية - بأن جمعا غفيرا وعددا كبيرا من السعوديين قد مارسوا الإرهاب ضد الآخرين، ومن ذلك عمليتهم الإرهابية في أحداث الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001م في نيويورك وواشنطن بالولايات المتحدة الأمريكية.
ويشير إلى ما يذهب إليه الكثيرون من المحللين والدارسين من أن ظاهرة التطرف والإرهاب «قد ترعرعت في المملكة بسبب أحادية الرأي ورفض الرأي الآخر»
لكنه في الوقت ذاته يطالب بالعدل والانصاف، وعدم المبالغة في وصف المملكة بالإرهاب، أو تحميلها وحدها المسؤولية الكاملة عن نشأته وانتشاره، فإن المملكة نفسها ضربتها يد الإرهاب بقوة، كما «أن النظرة العلمية تقتضي كذلك عدم فصل هذه الظاهرة المحلية عن مؤثراتها الإقليمية والدولية التي ساهمت في إذكاء نيران الإرهاب، وتوالد خلاياه اليقظة والنائمة»
ثم يذكر بعض هذه العوامل والمؤثرات التي ساهمت في نشوء هذه الظاهرة الخطيرة، وعلى رأس ذلك الصراع العربي الإسرائيلي وتداعياته الإقليمية الكثيرة الكبيرة، الذي هو من «أهم العوامل التي ساهمت في نمو شجرة الإرهاب الخبيثة»
وكذا الغزو السوفيتي لأفغانستان الذي نحى بالإرهاب إلى منحى آخر تمحور حول ثقافة الحرب الباردة، وإلى غير ذلك من العوامل التي ذكرها نصر الله في مقالته، بغية توضيح الصورة كما هي في كيفية نشوء وانتشار ظاهرة الإرهاب في العالم.
وهنا لا يغفل عن الثقافة المشوهة، وأثرها في غزو عقول الناشئة والشباب، وتسميم أفكارهم، لتصنع منهم قنابل إرهاب وتطرف متفجرة، فإن «من تعرض لغسيل دماغ من شباب أغرار - وهم حطب حروب الإرهابيين عادة - كانوا يتعرضون - بشكل أو بآخر - إلى تسميم عقولهم بغازات الحروب، القائمة على انتهاك القيم والمعايير في المنطقة.
وبمعنى ما فإن إسرائيل ومن يدعمها مساهمان في إثارة جروح العنف الديني، وتقيحات الإرهاب السياسي»
كما يؤكد على أن ما ذكره من أسباب متعددة لظهور ظاهرة الإرهاب في العالم، «لا يعني أننا لا نتحمل المسؤولية في ترك مؤسساتنا التربوية والدعوية مطية لمن استغل عبرها حسن نيتنا في دعم قضايا المسلمين، خاصة في الموضوع الأفغاني»
ولكن هذا لا يعني أننا المسؤولون الوحيدون عنه، وكل من يغفل أو يتغافل عن بقية أسباب وجود الإرهاب وانتشاره العالمي، ويرمي اللائمة فقط علينا، ويدعي أننا السبب الوحيد في ذلك، فهو ظالم لنا، ممارس للإرهاب الفكري ضدنا، عامل على تشويه صورتنا الحقيقية في أعين العالم من حيث يشعر أو لا يشعر، ولذا فإن «مناقشة موضوع الإرهاب - في هذه اللحظة - ينبغي أن ينفتح على مصراعيه، ليتحمل كل مسؤوليته، فهو موضوع معقد ومتشابك، ومثلما وقع ضرره على المجتمع الدولي بأسره - حيث يعاني العالم من أفعاله الشريرة - فإن مناقشته وتلمس أسبابه ومعالجة ظواهره تحتاج جهداً عالمياً مشتركاً، وفق استراتيجيات ثقافية متفاعلة مع متغيرات المعرفة الإنسانية»
أما المملكة العربية السعودية فهي ذاتها تعرضت للإرهاب، وتضررت بسببه، «وحسناً فعلت باستضافة هذا المؤتمر الدولي عنه، فليست هي وحدها المسؤولة عنه، مثلما هي ليست وحدها القادرة على اجتثاثه»
فلابد أن تتضافر الجهود الدولية في العمل على محاربته، ولابد أن تكون دراسة العامل الثقافي من الأولويات في العمل على اجتثاثه من أصوله.
وبما أن نصر الله مؤمن جدا بأهمية الجانب الثقافي في الموضوع، جاء مقاله الثاني «مكافحة الإرهاب ثقافيا أيضا» وقد نشر في اليوم الثاني من أيام المؤتمر، وقد افتتحه بالإشارة إلى المحاور التي ستتم مناقشتها في المؤتمر، والتي سبق أن ذكرتها، ليؤكد على أهميتها وجدارتها في مواجهة الإرهاب والقضاء عليه، ولا أقل من محاصرته، والحد من انتشاره، لينطلق من ذلك إلى صلب موضوعه، وهو التأكيد على أن تلك المحاور رغم أهميتها إلا أنها غير كافية في حل الموضوع، وعلاج المشكلة، بل هناك عامل آخر لا يقل أهمية عنها، إن لم يكن هو الأهم، وهو العامل الثقافي.
وتنبثق أهمية هذا العامل من أن ثقافة الإنسان هي التي توجه سلوكه في الحياة، وبما أن الجماعات الإرهابية تظن أنها وحدها التي تمتلك الحقيقة المطلقة، وأن كل من خالفها فهو ضال أو كافر، ولا تؤمن بحرية الرأي، وتمارس سياسة الإقصاء، فمن الطبيعي جدا أن يكون تعاملها مع الآخرين هو الإجرام، وسلوكها هو الإرهاب.
ثم يشير إلى نقطة مهمة للغاية، وهي أن النظرة الضيقة، والانغلاق على الذات، والتعصب للرأي، ومصادرة الآخرين، ليس محصورا في بعض الجماعات الإسلامية المتطرفة كما قد يتوهم البعض، أو يروّج لذلك البعض الآخر ولو بقصد تشويه الصورة النقية للإسلام والمسلمين، بل هو موجود لدى شرائح واسعة وجماعات كثيرة غير إسلامية، بمن فيهم الذين ينتمون إلى التقنية والحضارة الحديثة، كما هو الحال - مثلا - في اليمين الجديد بأمريكا، الذي يعتقد بصحة كل ما يعتقده المنتمون إليه، ويزدري المخالفين له، ويقصي المختلفين معه، ويوصمهم بالإرهاب والتطرف، سواء كانوا من المسلمين أم من غيرهم، مما يعني أن ثقافة أحادية الرأي، وإقصاء الآخر، ليست محصورة في بعض الجماعات الإسلامية فقط، بل كما هي موجودة فيهم كذلك هي موجودة في غيرهم أيضا.
وهذه الثقافة الخاطئة المدمرة هي التي تؤدي إلى الإرهاب، سواء على مستوى الدول، أم الجماعات، أم الأفراد.
أما الحل الناجع لهذه المشكلة العويصة، فيتمثل في «تصحيح هذه المفاهيم الضيقة، والتصورات النمطية المقلوبة المتبادلة بين السياسات والمجتمعات المتصارعة»
ولا شك أن هذا لا يمكن أن تقوم به جماعة معينة، أو مؤسسة معينة، أو دولة معينة، بل هو «يتطلب اهتماماً عالمياً بتنمية السياسات الثقافية القادرة على نشر قيم الحوار والتسامح انطلاقاً من تكريس الوعي الإنساني، الذي يتعرض اليوم إلى أشنع أنواع التزييف عبر قولبته بأنماط استهلالية مدمرة لكل قيم الحق والخير والجمال.
صحيح أن الاهتمام بالتنمية الثقافية متفاوت بين الدول المتقدمة في الغرب، والنامية أو المتخلفة في الشرق، إلا أن تمويل وتفعيل هذا النشاط الخلاق القادر على وعي الإنسان لنفسه والآخرين، وكذلك تفجير ملكاته للاستمتاع بالحياة، هو الوسيلة النموذجية لمحاربة الإرهابيين، ومكافحة أفعالهم الشريرة، حيث لن يكونوا قادرين على اصطياد ضحاياهم من الشباب المغرر بهم، متى ما أصبح هؤلاء على مستوى رصين من الثقافة الإنسانية القادرة على تعميق مشاعر الولاء الوطني، وفق رؤية شاملة تقدر الإنسان أينما كان وبأية ثقافة ينتمي إليها»
أما مقالته الثالثة فكانت في اليوم الثالث لانعقاد المؤتمر، وجاءت بعنوان «ليبقى وطننا آمنا»
وكما هو واضح من عنوانها، فإنه يحاول من خلالها أن يقدم رؤيته في كيفية صون الوطن بكل مؤسساته وممتلكاته وأبنائه من التطرف، وحفظه من الإرهاب وشره، ووقايته من الطائفية البغيضة، والعصبية الكريهة، لينعم بالأمن والاستقرار، والراحة والسعادة والرخاء، والرقي والتقدم والازدهار على جميع الأصعدة وفي مختلف المجالات.
وقد افتتحها بالإشارة إلى ما عاشته مختلف مناطق ومدن وقرى المملكة - على هامش المؤتمر - من حملات واسعة ومحاربة قوية للإرهاب، اتخذت طابع الاحتفالات والفعاليات الجماهيرية المؤثرة، من محاضرات علمية، وندوات تثقيفية، وعروض مسرحية، وأنشطة فنية، وبرامج رياضية.
كما ثمّن الجهود الأمنية، وأشاد بها وبما حققته من إنجازات في مواجهة الإرهاب، وملاحقة الطائفيين الإرهابيين، والعمل على تخليص الوطن من عبثهم وفسادهم وشرهم، وإضرارهم بالبلاد والعباد على حد سواء.
أما انعقاد المؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب على أرض المملكة بهذا الحجم الضخم، وهذه المشاركة الدولية الكبيرة، فإنه يثبت الدعم العالمي للمملكة فيهذه المواجهة، خصوصا وأنه تمّ تبني دعوة ولي العهد إلى «إنشاء مركز دولي لمكافحة الإرهاب، يتوفر على قواعد بيانية، وباحثين استراتيجيين يدرسون ظواهره، ويفلسفون أسبابه، ويتبادلون تجارب الدول حوله، ويتطارحون الحلول الكفيلة بالقضاء على آفة العصر»
وفي الوقت الذي يؤكد فيه نصر الله أن هذه الجهود سيكون لها أثرها الفاعل في الحد من الإرهاب، وتقليم أظافره، يؤكد عدم كفايتها في ذلك، فالحل الأمني وحده رغم أهميته إلا أنه لا يكفي، ولابد من التوسع في استراتيجية المواجهة لهذا الخطر، وخصوصا على المستوى الفكري والثقافي، تماما كما أشار إلى ذلك سمو وزير الداخلية في افتتاح الجلسة العامة الأولى للمؤتمر الدولي، حيث أكد على «أن المجتمعات بكافة مؤسساتها مسؤولة عن التصدي للإرهاب، وبقدر ما يقع على المؤسسات الأمنية من التزامات، فإن المؤسسات الفكرية - علمية وإعلامية وتربوية - مسؤولة مسؤولية كبرى عن بناء المفاهيم الصحيحة»
وهنا يتساءل نصر الله: «هل أعددنا العدة في المملكة له بالعمل المؤسسي نحو صياغة استراتيجية وطنية كبرى تتمحور في مكافحة الإرهاب وفق خطط آنية ومستقبلية، تتجاوز مواجهة هذه الظاهرة أمنياً إلى مواجهتها علمياً وإعلامياً وتربوياً ودعوياً وثقافياً؟!»
كما يشير إلى أنه تناول هذا الموضوع قبل بضعة شهور، ودعا إلى «تشكيل فريق وزاري مكوّن من وزراء الداخلية والشؤون الإسلامية والتربية والتعليم والثقافة والإعلام والتخطيط والاقتصاد لوضع مثل هذه الاستراتيجية، والتحرك بروح الفريق الواحد وفق معطياتها المتعددة على مسرح الأحداث، بحيث لا تظل الأجهزة الأمنية وحدها في الميدان تطفئ حرائق الإرهاب، بينما هناك من يقوم بتغذيته في جوانب أخرى! فمثلما أجهزة الأمن مسؤولة عن القضاء على أعمال الإرهابيين المنكرة - وقد نجحت في ذلك نجاحاً كبيراً - فإن على البيت أن يمنع انحرافهم، وكذلك على المدرسة والمسجد والوسائل الاتصالية والتثقيفية أن تحد من اختراقاتهم»
ولا شك أن تحقيق ذلك يحتاج إلى التخلص من شوائب الغلو والتطرف والتعصب والطائفية والإقصاء، ونشر ثقافة الحب والتسامح والألفة والمحبة والإخوة.
فالخطاب الإسلامي عبر كل قنواته الدينية من مساجد وغيرها، والهيئات التعليمية بمختلف مراحلها، والنوادي الأدبية والمنتديات الثقافية بكل أشكالها وأنواعها، والمنابر الإعلامية المرئية والمسموعة والمقروءة، كل هذه القنوات وغيرها مما هو على شاكلتها يجب أن تعمل على تأصيل روح الوحدة الإسلامية، وتعميق الإخوة الدينية، ونشر الثقافة الصحيحة الواعية والقائمة على الاعتراف بالتعددية الفكرية والمذهبية، وأن أتباع جميع المذاهب الإسلامية مسلمون، والاختلاف الفقهي والعقائدي الموجود بينهم لا يخرج أيا منهم من الدين، فالاختلاف من طبيعة البشر، ومما فطر الله الناس عليه، ولا سبيل لرفعه، ولابد من القبول به على أية حال، كما يجب أن تبذل الجهود في العمل على نبذ سياسة العنف والتطرف والإقصاء، والدعوة إلى التكافل الاجتماعي، والحث على الحب للآخرين...
إننا بحاجة إلى كل هذه الأمور من كل هذه الهيئات والمؤسسات لنصل إلى الوسطية في الدين، والاعتدال في المعتقد، ونتمكن من مواصلة «الوقوف في المعركة حتى سقوط آخر إرهابي، واندثار أية بذرة إرهابية من رؤوس بعض شبابنا الأغرار، لتبقى بلادنا على الدوام - بإذن الله - وطناً للأمن والمحبة والسلام»
أما السؤال الكبير الذي يطرحه نصر الله بشأن ذلك كله، فهو: هل نحن عملنا على ذلك؟!
وعلى أية حال فإن نصر الله يعتقد وبقوة أن الوطن «اليوم بمسيس الحاجة إلى سند ثقافي يمكّن المواطن - لا المثقف والمبدع وحدهما - من التفاعل الخلاق مع جملة المتغيرات، نحو مجتمع جديد يخلّف وراءه كافة صور التشدد الذهني، منفتحاً نحو آفاق عالمية، تموقع بلادنا في المكان الذي تستحقه عربياً وإسلامياً ودولياً»
ويرى أن ذلك لا يمكن أن يتحقق إلا بصياغة ثقافية سبق أن اقترحها هو على «نظام الهيئة العامة للثقافة» يكون من أولوياتها «تفعيل حقيقتنا الثقافية والفكرية والإبداعية والجمالية في الداخل، وتعديل صورتنا النمطية المقلوبة في الخارج، مع استهداف السياسة الثقافية، تعزيز الولاء الوطني، والحد من الإرهاب، وتجفيف منابع التطرف، ولجم ظواهر التشدد والتعصب والإقصاء، وإشاعة ثقافة التعايش بين مكونات المجتمع، وتمكين حب المهنة، وتحسين نوعية الحياة».
والمؤلم أن نصر الله يناشد بتصحيح البناء الثقافي، واستبدال الثقافة الطائفية التي تنبش في الدفائن، وتثير الحفائظ، وتؤسس للكراهية، وتوقد نار الفتنة بين المسلمين، وتزرع الأحقاد بين أبناء الوطن الواحد، بثقافة أخرى تبني العقول، وتقوّم الأفكار، وتصحح المفاهيم، ويطالب جميع الدوائر والمؤسسات والهيئات الدينية والتعليمية والإعلامية والثقافية بتحمل المسؤولية الجسيمة الملقاة على عاتقها في هذا المجال، في الوقت الذي هو فيه يتألم حد البكاء بحرقة بسبب تغلل الطائفية حتى في هيئاتنا التعليمية التي لم تخلو مناهجها مما يؤسس لثقافة الكراهية والتكفير، ووصل الأمر فيها إلى لمز ونبز بعض طلبة أبناء بعض الطوائف الإسلامية على أساس مذهبي بغيض وكريه، مما يؤدي إلى العداوة والشحناء والبغضاء، في حين أن المفترض أن تكون هذه الهيئات هي المحاربة لذلك، والمربية للناشئة والشباب على المحبة والمودة، واحترام الجميع للجميع.
وفي التعبير عن ذلك الألم لهذا الواقع المتردي نرى نصر الله يقول: «إنني كم أتألم إلى درجة كفكفة الدموع، وأنا أستمع اليوم إلى شكوى ابني: لماذا يشار في المدارس إلى انتماءاتنا الضيقة، وقد أصبحنا نعيش في مدن كبرى، تضاهي بكثافتها السكانية وبنيتها التحتية، بفللها وشوارعها، مدناً كبرى في العالم؟!».
مما يؤسف له أن «حقبة صعبة مرّت على الوطن، تراجع خلالها مستوى التواصل والانسجام بين أطراف المجتمع المتعدد المذاهب والتوجهات، حيث استأثر بالساحة الفكرية والدينية رأي أحادي، يرفض الاعتراف بالآخر، ويضيّق عليه الخناق، ويحرمه من فرصة التعبير عن وجهة نظره، حتى أصبح اعتناق الرأي الآخر كأنه مروق من الدين، وخلل في الولاء للوطن، ومخالفة للنظام.
فانكفأ أتباع المذاهب الأخرى على أنفسهم، وانطوت كل جهة منهم ضمن دائرتها الخاصة، لتهتم بتحصين أتباعها ضد تأثيرات الاتجاه الذي يحتكر كل الوسائل والاتجاهات العامة، وسادت حالة من الجفاء والجفاف، والقطيعة والتباعد، وبدأت تظهر آثارها الخطيرة، ونتائجها المرة في إضعاف الوحدة الوطنية، والنيل من تماسك المجتمع وانسجامه، وبروز التوجهات المتشددة المتطرفة».
وكان لابد من مواجهة هذا الواقع المتردي، والعمل على تغييره وفق خطط عملية واستراتيجية، من شأنها أن تحقق التلاقي والتواصل، وتمهد الأرضية للحوار والتفاهم، بغية الوصول إلى الوئام والانسجام بين أبناء الدين الواحد، والوطن الواحد.
ومن بين الخطوات العملية في ذلك أن صدر أمر جلالة الملك فهد بن عبد العزيز بتاريخ يوم الخميس 24 جمادى الأولى 1424 هـ 24 يوليو 2003م بإنشاء «مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني» لتناط به مسؤولية «توفير البيئة الملائمة الداعمة للحوار الوطني بين أفراد المجتمع وفئاته من الذكور والإناث بما يحقق المصلحة العامة، ويحافظ على الوحدة الوطنية المبنية على العقيدة الإسلامية، وذلك من خلال الأهداف التالية:
أولاً: تكريس الوحدة الوطنية في إطار العقيدة الإسلامية، وتعميقها عن طريق الحوار الفكري الهادف.
ثانيًا: الإسهام في صياغة الخطاب الإسلامي الصحيح، المبني على الوسطية والاعتدال داخل المملكة وخارجها من خلال الحوار البناء.
ثالثًا: معالجة القضايا الوطنية من اجتماعية وثقافية وسياسية واقتصادية وتربوية وغيرها، وطرحها من خلال قنوات الحوار الفكري وآلياته.
رابعًا: ترسيخ مفهوم الحوار وسلوكياته في المجتمع، ليصبح أسلوبًا للحياة، ومنهجاً للتعامل مع مختلف القضايا.
خامسًا: توسيع المشاركة لأفراد المجتمع وفئاته في الحوار الوطني، وتعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني بما يحقق العدل والمساواة، وحرية التعبير في إطار الشريعة الإسلامية.
سادساً: تفعيل الحوار الوطني بالتنسيق مع المؤسسات ذات العلاقة.
سابعاً: تعزيز قنوات الاتصال والحوار الفكري مع المؤسسات والأفراد في الخارج.
ثامنًا: بلورة رؤى إستراتيجية للحوار الوطني وضمان تفعيل مخرجاته.
وكان أول لقاء للحوار الوطني في «مكتبة الملك عبد العزيز العامة» لمدة أربعة أيام، خلال الفترة من 15 إلى 18 ربيع الآخر 1424 هـ الموافق 15 إلى 18 يونيو 2003م، برعاية الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي كان ولي العهد حينها، وبحضور أكثر من ثلاثين شخصية علمية وفكرية وثقافية من مختلف المذاهب الإسلامية، ومن جل مناطق المملكة العربية السعودية، وكان عن «تعزيز الوحدة الوطنية» التي أكد ولي العهد في كلمة الافتتاح عليها تأكيدا كبيرا، بقوله مخاطبا المشاركين في اللقاء: «أيها الإخوة الأفاضل، لا يخفى عليكم - وقد اجتمعتم في هذا اليوم المبارك لهدف نبيل وغاية شريفة - ما يحدق ببلادنا من أخطار، وما تمرّ به من ظروف دقيقة حرجة، وما تعانيه من ضغوط، وما تواجهه من هجمات شرسة، تمسّ العقيدة، وتهدد الوحدة الوطنية، وتعرضها للاختراق من قبل الأعداء، الأمر الذي يوجب على كل مخلص من أبنائها أن يبذل أقصى الجهد والاجتهاد للتصدي لمحاولات النيل من وحدتها، والمساس بأمنها واستقرارها، وتهديد مصالحها، وأن يتنبه كل ذي لب لعوامل التنافر والشقاق، وظهور العدوات، سواء من العصبيات القبلية، أو النعرات الإقليمية، أو الاختلافات الفكرية، أو أي شكل من أشكال الغلو والتطرف.
أيها الإخوة: ما من عاقل عارف بالأمور، ينكر أن اختلاف الآراء، وتعدد المذاهب، أمر واقعي في حياتنا، وطبيعة من طبائع الناس، الذين خلقهم الله - بعلمه وحكمته - على فوارق في الفهم والإدراك والفكر، وتعدد مشارب العلم والمعرفة، واختلاف في بيئات النشأة والتربية».
ومن أهم التوصيات التي خرج بها اللقاء الأول، والتي من شأنها تعزيز الوحدة الإسلامية، وتقوية اللحمة الوطنية، والحد من الطائفية، وسياسة التطرف تجاه الآخر:
1 - دعوة المؤسسات العلمية الشرعية للاتفاق على تحديد المفاهيم والمصطلحات ذات الصلة بالغلو، مثل: الإرهاب، جماعة المسلمين، دار الحرب، دار الكفر، دار الإسلام، الطائفة المنصورة... إلخ.
2 - الدعوة لدراسة علمية شاملة ومعمقة لظاهرة الغلو في المجتمع السعودي: أسبابها، ومظاهرها، وأثرها، وعلاجها. لتبنى في ضوئها إستراتيجية شاملة للمعالجة.
3 - الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني بما يتناسب والمتغيرات المعاصرة، مع الفهم الواعي لأحوال العالم الخارجي، والتعاطي معه بانفتاح ومتابعة وتفاعل.
4 - التأكيد على رفض الفتوى الفردية في المسائل العامة التي تمس مصالح الأمة ومستقبلها.
5 - ترسيخ مفاهيم الحوار في المجتمع السعودي، وتربية الأجيال في المدارس والجامعات على ذلك، مع فتح أبواب حرية التعبير المسؤولة التي تراعي المصلحة العامة.
6 - تطوير مناهج التعليم في مختلف التخصصات على أيدي المتخصصين، بما يضمن إشاعة روح التسامح، والوسطية، وتنمية المهارات المعرفية، للإسهام في تحقيق التنمية الشاملة، مع التأكيد على ضرورة استمرار المراجعة الدورية لها.
إلى توصيات أخرى متعلقة بالشأن السياسي والاقتصادي وغيرهما من أمور.
وأصبح اللقاء الوطني للحوار الفكري حدثا سنويا تشهده المملكة في مختلف مناطقها، وكانت عناوين الكثير من تلك اللقاءات تهتم بالشأن الوطني، وتقوية اللحمة الوطنية، ونبذ التطرف والطائفية، والدعوة إلى التعددية والاعتراف بالآخر، كما هو الحال في اللقاء الثاني الذي عقد في مكة المكرمة سنة 2003م تحت عنوان «التطرف والاعتدال: منهجية المنظور الشامل» واللقاء الخامس في أبها سنة 2005م تحت عنوان «نحن والآخر: رؤية وطنية للتعامل مع الثقافات العالمية» واللقاء التاسع في حائل سنة 2011م تحت عنوان «وسائل الإعلام: الواقع ومسارات التنمية».
وكان نصر الله مواكبا للقاءات الحوار الوطني، وكتب عن بعضها حين انعقادها، كما كتب عنها جميعها في أوقات لاحقة، وكانت كتاباته تصب فيما يمكن عقده من آمال عليها، ومحاولة بيان العقبات التي تواجهها في تطبيق توصياتها، وكذا النقد لعدم تفعيل تلك التوصيات والمخرجات في الواقع العملي، من أجل تعزيز الوحدة، والانفتاح على الآخر، فهو يرى أن في «إمكان المركز أن يلعب دوراً محورياً في تمثل ثقافة الحوار وقيم التعايش بعد إشاعته»
ويوضح أن الدكتور غازي القصيبي كان يعتبر هذه النقطة بالذات «ركيزة أساسية في فعاليات مركز الحوار، في حين كان عليه بعد عقده عدداً من الملتقيات، ناقش المدعوون إليها كثيراً من عوائق التعايش الوطني، بتحويل توصيات ملتقيات الحوار إلى برامج عمل وسياسات وطنية، يرى المجتمع مفاعيلها في الواقع الملموس»
ويتساءل عن تلك التوصيات: إلى متى لا يتم تفعيلها في الوسط الاجتماعي العام، وعلى مستوى الوطن بأسره؟! «فهل يعقل أن تنحصر مهمة المركز في تبني ثقافة الحوار وحدها؟! وإلى متى؟! أم أن متطلبات المرحلة المتسارعة عالمياً وإقليمياً ومحلياً، هي العمل الحثيث على نقل روحية التعايش إلى مؤسسات المجتمع والدولة في قطاعاتهما المختلفة، ضمن استراتيجية وطنية إصلاحية تتبناها الدولة، بوصفها القادرة وحدها - حتى الآن مع غياب المجتمع المدني - على فرض الحقائق الجديدة في المجال العام، ذلك أن ولادة مبادرة الحوار الوطني نفسها لو لم يتبنّاها رائدها الأول الملك عبد الله يرحمه الله بحماسه المعهود، حينما كان ولياً للعهد، لأصبحت واحدة من الأماني والأحلام، التي طالما تطلع إليها مثقفو المملكة منذ وقت طويل، دون أثر لها بين مكونات المجتمع».
ولم يقف دور نصر الله في التفاعل مع لقاءات الحوار الوطني عند حدود كتابة المقالات المتنوعة بشأنه، بل تجاوز ذلك إلى المطالبة العملية للمركز بتفعيل كل مخرجاته وتوصياته ضمن خطط وبرامج استراتيجية وواضحة وفاعلة، وإلا فلا جدوى من تلك اللقاءات وما ينتج عنها من مقترحات وتوصيات.
فهو يؤكد أنه طالب «مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني القيام بمهمة وحيدة لا ثاني لها، هي تحويل مخرجات حواراته التي لامست بعضاً من قضايانا المعلقة، إلى صياغة استراتيجيات وطنية، تقوم على دراسات مسحية بنيوية لمجمل مشكلاتنا، في استشراء ظواهر التعصب والتطرف والإقصاء، التي أنتجت أفعال الإرهاب المدمرة للأمن الوطني»
كما نادى «بضرورة تجديد الخطاب الديني، والعمل على قوننة مفهوم وطني تعاقدي واحد، يحمي وحدتنا الوطنية من أي سلوك من سلوكيات التمايز الممارسة في المجتمع وفق مفاهيم قبلية وإقليمية وطائفية»
كما يؤكد في مطالبته هذه - من باب التأكيد لها وإلزام المركز بها - على أن هذا الأمر المهم جدا في نبذ الطائفية، وحفظ الوحدة الوطنية «هو ما لامسه الملك سلمان في عدد من خطاباته، منذ تولى بكل نقد وشفافية»
ويوضح أنه طالب «أيضا بحل معضلة التربية والتعليم بالشراكة بين البيت والمدرسة، وتخليص دور المرأة من تغييبها عن المشاركة الفعالة في القطاعين الحكومي والخاص بتمكينها من العمل في كافة برامج التنمية الوطنية، وتعميم مشروعات البنية التحتية خارج المدن، وكذلك محاصرة أخطار البطالة المحدقة، والقضاء على ظواهر الفقر ومشكلات المخدرات، وتقليص هذا الحجم المليوني الهائل من العمالة الوافدة، وتوفير فرص عمل للمتخرجين بعد إعادة تأهيلهم لمتطلبات العمل، حيث يرفضهم قانون السوق في القطاع الخاص - لما يحملونه من مؤهلات نظرية غير عملية - غدت عبئاً على المجتمع والدولة»
ثم يشير إلى أن «هذه وغيرها من قضايا التغيير الاجتماعي انتظرنا طويلاً من مركز الحوار الوطني دون أن يفعّل توصياته بشأنها مع جهات الاختصاص لمعالجة سلبياتها، والبناء على تراكماتها الإيجابية، فقد كان المطلوب صياغة استراتيجيات لا تحتمل التأجيل، وممكنة التطبيق، بحيث تكون أمام صانع القرار، يحركها على مسرح المتطلبات الوطنية»
إلى أن يختم مقالته الوطنية هذه بالتأكيد على أن «هذا ما كان وما يزال على مركز الحوار الوطني أن يقوم به، مستعيناً بدراسات الأكاديميين المنهجية، وخبرات الاستراتيجيين العملية، متفحصة علل الظواهر ومسبباتها، ومتطارحة الخيارات والحلول.
أما استمرار ثقافة الحوار - على أهميتها القصوى - بهذا الصورة النمطية الثابتة، فإني أخشى على دور المركز أن يتحول إلى ظاهرة صوتية!».
وإذا تحولت تلك اللقاءات ومخرجاتها إلى مجرد ظاهرة صوتية، فقطعا لن يجني المجتمع أية ثمرة عملية من ورائها.
لا شك أن من أهم الأمور التي تساعد على تقارب أبنا الوطن الواحد، وتعزز وحدتهم، وتبني الحب والود بينهم، وتمكنهم من فهم بعضهم، وتعينهم على تحقيق ما يصبون إليه من آمال وطموحات لحفظ وحدتهم، وبناء أوطانهم، وتفويت الفرصة في ضربهم من قبل أعدائهم والمتربصين بهم، هو أن يعوا ويؤمنوا أن التعددية الدينية والمذهبية، والاختلافات الفكرية، هي طبيعة بشرية، وفطرة إلهية، لا يمكن رفعها ولا القضاء عليها بأي حال من الأحوال.
وكما سبق وأشرنا: فإنه على المستوى الإسلامي فإن تعدد المذاهب لا يعني مروق بعضها من الدين، ولا خروجها من الإسلام، بعد أن تكاثرت الأحاديث، واتفقت الكلمة على أن كلمة التوحيد والشهادة للنبي بالرسالة تكفي في تحقق الإسلام، فلا يصح أن نكفّر طائفة من الطوائف، أو أتباع مذهب من المذاهب الإسلامية، فقط لاختلافهم معنا في بعض القضايا الاعتقادية، أو المسائل الفقهية، فإن التكفير أمر عظيم، والجنة والنار بيد رب العالمين.
كما أن التعدد المذهبي، والاختلاف الفكري مفيد جدا، ويمكن أن تنتج عنه الكثير من الأمور الإيجابية خصوصا على مستوى الفكر والعلم، وذلك من خلال الحوارات الثقافية والفكرية والعلمية، والمناقشات الدينية العقائدية والفقهية، التي دارت وما زالت تدور بين هذه المذاهب وعلمائها وأربابها ومفكريها، مما أثرى الحضارة الإسلامية، وأغناها بالعلوم والمعارف.
أما محاربة التعددية، والدعوة إلى منع الاختلاف العلمي والموضوعي في فهم المسائل وتقويمها - سواء كانت دينية أم غيرها - فبغض النظر عن كونها دعوة مستحيلة التحقق لمخالفتها لما فطر الله الناس عليه من الاختلاف، إلا أنها أيضا تؤسس للتخلف والرجعية، وتؤصل للجمود والانغلاق، وفيها قتل للإبداع الفكري، وحد من التطور العلمي والثقافي.
فالاختلاف ليس سلبيا في كل الحالات كما يتصور البعض، بل هو أمر إيجابي ومطلوب متى أحسنا التصرف معه، وعرفنا كيفية إدارته بمهارة وفن وإتقان.
أما الوطن فليس حكرا على أصحاب منطقة دون أخرى، ولا هو ملك لأتباع مذهب دون آخر، بل هو وطن الجميع، ومن حقهم جميعا أن ينعموا فيه بالأمن والأمان، ومن واجبهم نحوه الدفاع عنه، والوفاء له، مع ملاحظة أن الصدق في الولاء والوفاء للوطن ليس متوقفا على أن تكون من هذه الطائفة أو تلك، فلا يصح اتهام أحد بعدم الوطنية انطلاقا من منطقته أو عقيدته أو ما شابه ذلك من أمور لا علاقة لها البتة بموضوع حب الوطن.
وهذا ما كان نصر الله يؤكد عليه في الكثير من حواراته ومقالاته ومواقفه، كما رأينا في هذا العرض المختصر رغم طوله.
أما الذين يقفون موقفا سلبيا من الوحدة الوطنية، ولا يعترفون بالتعددية، ولا يؤمنون بالاختلافات الفكرية والمذهبية، وينطلقون في مواقفهم من الطائفية والعصبية، فيصادرون الرأي، ويقصون المختلف، فبقدر ما نصر الله يحترمهم ويقدرهم، ويبتعد عن محاولة اتهامهم، إلا أنه ينقد فكرهم القاصر هذا بقوة، ويرد عليهم بمنطقه الفياض وحجته البالغة في الكثير من مواقفه ومقالاته ولقاءاته.
ولا بأس أن نختم عرضنا هذا عن «الطائفية في مقالات ومواقف نصر الله» بذكر موقفين فقط من مواقفه الكثيرة في مواجهة كل من يعيش حالة الانغلاق على الذات، ولا ينفتح على الآخر، ولا يؤمن بالتعددية المذهبية، ولا يدين بالحرية الفكرية.
فحين طالب بتشريع قانون يُجرّم الطائفية ويعاقب عليها، ورغم ما عبّر به من حزن وخيبة أمل ممن وقفوا في وجه هذا الطلب من أعضاء مجلس الشورى حتى أسقطوه كما ذكرنا ذلك تفصيلا فيما مضى من عرضنا هذا، إلا أنه لم يتهمهم بالنفس الطائفي، ولا بمحاربة الوحدة الوطنية، بل خلق لهم الأعذار، ووضع المبررات.
فحين سأله مذيع قناة العربية في نشرة الرابعة: ما هي مبررات من رفض هذا المشروع؟ هل كانت مقنعة أم - كما يتساءل الناس - هناك أعضاء في مجلس الشورى هم ضد الوحدة الوطنية؟!
أجاب نصا: «لا. أنا لا أقول إنهم ضد الوحدة الوطنية، ولكن هناك وجهات نظر أحيانا تتعارض.
هم يقولون: هناك أنظمة بإمكانها محاصرة هذه الظاهرة، ويمكن للمواطن التقديم بالتقاضي إلى هذه الجهات»
فهو - هنا - تجنّب توجيه أية تهمة إليهم، لكنه في الوقت ذاته كان رده عليهم، وبيانه لأهمية سنّ هذا القانون ودوره في نبذ الطائفية، والحفاظ على الوحدة الوطنية قويا جدا في الحجة والمنطق، وقد سبق أن عرضنا ذلك فيما مضى من هذا العرض فراجع.
كذلك حين كتب مقاله «هل تحول الحوار الوطني إلى ظاهرة صوتية؟!» الذي جعله من جزأين، وفيه طالب بالعمل على تفعيل مخرجات الحوار الوطني، وأكد على محاربة الطائفية والتعصب، ونشر ثقافة الحب والتسامح، والإيمان بالتعددية، والاختلافات الفكرية والمذهبية، كما بيّنا قبل قليل.
فقد كان لهذا المقال - بجزئيه - صدى واسع جدا في قنوات التواصل بين المؤيدين والمعارضين، عبّر عنه نصر الله بأنه «هزة رجَّت أسلاك المنتديات الإلكترونية!»
وكما قدم نصر الله شكره العميق لمن «تفهّم فناصر» تلك الدعوة الصادقة المخلصة بما يترتب عليها من مصالح دينية واجتماعية ووطنية كثيرة وكبيرة، كذلك شكر «من وجد نفسه على آثار من كان قبله مقتدياً» ودعا بالمغفرة «لمن جافى الحق والحقيقة، ساجناً عقله - أعظم نعمة أسبغها الله سبحانه وتعالى على عبده - في أحكام جاهزة متوارثة»
ولكن شكرهم ودعوته بالمغفرة لهم، لمجافاتهم للحقيقة، وسجنهم لعقولهم التي هي أعظم نعم الله عليهم، وربما تصلبهم في موقفهم منه، وشدتهم في مخالفتهم له، وردهم عليه، لم يجعله يتراجع عن موقفه، ولا أن يخفف من مطالبته، فلا مواربة ولا مجاملة على حساب اللحمة الاجتماعية، والوحدة الوطنية، فالطائفية يجب أن تنتهي، والعصبية لابد أن تموت، وعلينا أن نعترف لجميع المواطنين باختلاف طوائفهم ومذاهبهم ومناطقهم بحق المواطنة بما يترتب عليها من حقوق وواجبات.
ولذا أكد نصر الله في رده عليهم على أنه رغم تلك المخالفة والمعارضة إلا أنه ما زال على موقفه من وجوب نبذ الطائفية، والعمل على حفظ الوحدة الوطنية، وأنه ما زال يرجو «من اللقاء الوطني بعلمائه ومثقفيه، التأكيد على أهمية الحوار وسيلة للتعبير عن الرأي في إطار التعايش بين وجهات النظر المختلفة، حيث الاختلاف والتنوع الفكري سنة كونية، والتعددية المذهبية حالة تاريخية، لا يمكن إلغاؤها»
كما يؤكد على أنه لمس «في وسط الزوبعة المتوقعة نفساً جديداً من أريحية القبول بهذه التعددية، ما دامت المنطلقات واحدة، فكل من يعيش على أرض وطننا الغالي، يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، يصلون لله الواحد الأحد لا إله سواه، يحجون إلى بيته، ويصومون رمضانه، ويؤدون زكاته...
وبعد ذلك فهذه بلادهم، يستظلون أمنها الوارف، الذي لا يسيء إليه سوى المغرر بهم من الجهلة والمكفرين، ويتمسكون بوحدتهم الوطنية، أعظم إنجاز تحقق لهم في هذا العصر، وحظوا بالرفاه من آبار نفط تفجرت من تحتها أنهار التنمية والتحديث»
ولا يكتفي نصر الله بهذا الرد الحازم الحاسم، بل يضيف إليه التقريع الشديد بإبداء تعجبه من هؤلاء المعطلين لعقولهم، الرافضين لدعوته رغم ما فيها من خير لهم ولوطنهم، المكثرين من الرد عليه في أمر يحفظ لحمتهم ووحدتهم، كيف لم يحركوا ساكنا، حتى ولو بالتفاعل مع مقال كتبه في الدفاع عن رسول الله، والرد على تهجم معروف الرصافي عليه، وإساءته إليه ﷺ في كتابه السيء «الشخصية المحمدية» الذي شحنه بالكذب والافتراء والهجوم والتطاول على أشرف الخلق وخاتم المرسلين، فانبرى نصر الله للرد عليه في مقالته «معروف الرصافي يعتدي على نبوة محمد!».
وقد افتتح توبيخه القوي وتقريعه الكبير لهم بقوله بعد رده عليهم بما نقلناه: «... إلا أنني عجبت من كثرة الردود على مقاليَّ المذكوريّن، بينما سبق أن كشفت هنا في الصيف الماضي، عن أسوأ فضيحة مرت بتاريخ الأمة الأدبي والفكري، ولم أتلق رداً واحداً، رغم أن تلك الفضيحة قام بها واحد من أشهر شعراء العرب في القرن العشرين، أعني الشاعر العراقي معروف الرصافي، الذي ألف كتاباً عن ”الشخصية المحمدية“ ملأ صفحاته بافتراءات صلعاء عن أشرف الخلق، فاق في جوره وتعديه على نبينا العظيم غلاة المستشرقين» وإلى آخر ما قاله في تقريعهم وتوبيخهم لتخاذلهم عن نصرة نبيهم ولو بكلمة مناصرة وتأييد لما كتبه هو، مما لا نرى ما يدعونا لنقله.
بل يكفيك في توبيخهم وتقريعهم أنه جعل عنوان مقاله في الرد عليهم «لماذا لم يردّوا على منكر النبوة؟!».
إن مقالات ومواقف نصر الله في محاربة الطائفية كثيرة جدا، كما أنها مهمة جدا، ورغم إسهابنا في الحديث عنها، إلا أن كل ما ذكرناه ما هو إلا غيض من فيض، أو قطرة من بحر.
وهذه المقالات والمواقف كما نسجلها له بكل الإجلال والإكبار، ونذكرها بكل التقدير والاحترام، كذلك نؤكد التأكيد كله على أهمية ألا تظل فقط مجرد مقالات في الجرائد منشورة، أو مواقف في الصحف مذكورة، بل من المهم جدا أن نوليها كل العناية والاهتمام، وأن نعكف على دراستها، والاستفادة منها، ومن كل ما هو على شاكلتها - سواء كان لنصر الله أم لغيره من الوطنيين المخلصين الصادقين - لنخرج منها بمشروع متكامل يؤسس للقضاء على الطائفية بكل أشكالها وألوانها، ويؤصل للوحدة الإسلامية، ويقوي اللحمة الوطنية، لنخلص أنفسنا ونحمي أوطاننا من الإرهاب والإجرام.
بل نحن نأمل أن يتجاوز موضوع محاربة الطائفية بما يترتب عليه من آثار سيئة، ومشاكل معقدة، مسألة أن يكون فقط مشروعا من المشاريع، أو مجرد هدف من الأهداف، فإن المشاريع من الممكن أن تفشل لأي سبب من الأسباب، كما أن الأهداف من الممكن أن تتغير بين حين وآخر، خصوصا حين يعتقد الإنسان أن ذلك الهدف لا قيمة له، ولا يستحق العمل من أجله، ولا التضحية في سبيله.
وعليه فلو اعتبرنا محاربة الطائفية فقط مجرد مشروع، أو نظرنا إليها على أساس أنها هدف أو غاية لا أكثر، فهذا يعني أن مشروعنا قد يفشل، ولو بسبب تلك العقبات التي تعترض طريقه، وهدفنا قد يتغير، أو قد نتكاسل عنه، ولا نوليه من العناية والاهتمام ما يمكننا من الوصول إليه، والعمل على تحقيقه وإنجازه، خصوصا في حال اقتنعنا أو اقتنع بعضنا أن هذا الهدف ليس مهما، أو على الأقل هو ليس بتلك الأهمية التي تستحق أن نجتهد في العمل من أجل تحقيقه.
ومن هنا فيجب علينا جميعا أن نعتبر محاربة الطائفية واجبا دينيا وإنسانيا ووطنيا مقدسا، كما نعتبر العمل على تعزيز الوحدة الإسلامية، وتقوية اللحمة الوطنية، قيمة من القيم الإنسانية العليا، ذلك أن القيم لا يمكن أن تتغير، ولا أن تفقد قيمتها، مهما تغيرت الظروف، وتبدلت الأحوال، واختلف الزمان والمكان، تماما كما هو الحال في سائر القيم الإنسانية العظيمة المقدسة، كالعزة والكرامة والصدق والأمانة والوفاء والعدل... فهذه وأمثالها كلها قيم إنسانية فاضلة وعليا ومقدسة عند الناس جميعا، لذلك ترى الناس كلهم من مسلمين وغير مسلمين يقدسونها، ويحرصون عليها، وذلك لأنه لا يمكن للإنسان العاقل الواعي، أن يتخلى عن القيم المقدسة لأي سبب من الأسباب، مما يعني أنه لا يمكن أن تفقد هذه القيم قيمتها على مر العصور، وتعاقب الدهور.
وكذلك الحال في محاربة الطائفية، وتعزيز الوحدة الإسلامية، وتقوية اللحمة الوطنية، فمتى اعتبرنا ذلك قيمة إنسانية عليا، وليس مجرد مشروع أو هدف، اكتسبت قداسة خاصة في النفوس، كما أنها ستبقى محافظة على هذه القداسة في نفوس الأجيال القادمة أيضا، باعتبار أن القيم الفاضلة لا تتغير ولا تتبدل، ولا تفقد قيمتها بين جيل وآخر.
وكما أنه لا يستهين بالقيم المقدسة، ولا يحتقرها إلا المجرم، والمنحرف عن الفطرة السوية، فكذلك الحال متى اعتبرنا الوحدة قيمة عليا ومقدسة - كما هي فعلا كذلك - عندها سنحكم على كل من يستهين بها، ويعمل على تمزيق وحدة المسلمين، وتشتيت شملهم، بالإجرام والانحراف والتخلي من القيم الفاضلة، مما يعني أن اعتبار الوحدة قيمة عليا ومقدسة، يعطيها حصانة تحافظ عليها من اعتداء المعتدين، وعبث العابثين، وإجرام المجرمين، سواء كانوا من الطائفيين أم غيرهم، مما يجعلنا جميعا ندينه، وندين إجرامه، ونطالب بمعاقبته، بل وإنزال أشد العقوبة به.
حفظ الله مملكتنا الغالية الحبيبة، وجميع الدول والبلدان والأوطان، وأنعم علينا بنعمة الأمن والأمان، وكل الامتنان والعرفان للأخ الكريم الأستاذ فؤاد نصر الله، الذي إليه يعود الفضل بعد الله عز وجل في كتابة هذا الموضوع المتواضع، كونه شرفني بتوجيه دعوته الكريمة إليّ لكتابة موضوع عن الأستاذ محمد رضا نصر الله ليضمنه الكتاب الذي يقوم على إعداده عن سعادته بمناسبة بلوغه السبعين من عمره، فكان هذا الموضوع الذي آمل أن أكون قد وفقت فيه - اختيارا وعرضا - ولو بعض التوفيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين، وصحبه المنتجبين.