تناغم رجل الدين والمثقف
قال تعالى ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ 125النحل
من هذه الآية الشريفة أريد أن أنبه نفسي وإياكم أن هناك محاولات تريد فصل مفهوم المثقف عن رجل الدين، وهي مستفيدة لوجود حالة عدائية بين هذين المصطلحين، ولكن هناك عنصر مشترك ذو خط رفيع ومفصلي جداً يتبناه كلا الطرفين ولكن يختلف في الأسلوب والطريقة، وهو أن معظم رجال الدين مثقفون، لأن طبيعة درسهم الحوزوي طبيعة تبعث على كثرة المطالعة والبحث والترصد وفك العقد وإخراج النتائج، وهذا أيضا معظم ما يدعيه المثقف لنفسه كما هو لسان حال بعضهم حيث يقول: منهجنا هو البحث والمطالعة في الكتب، ونملك الإمكانية أن ننهض بالمجتمع خطوات مهمة نحو الرقي والتقدم الفكري الذي تحتاجه المرحلة في الزمان والمكان المناسب. ومن خلال تتبع طويل مع أخواني الكتاب في القروبات والمنتديات والأجهزة الذكية من خلال برامج التواصل الاجتماعي وجدت حالة مشوشة بين هذين المفهومين، وأردت أن أعرف منشأ هذه المشكلة ثم كشف ملابساتها، ثم أعرج على ما وصلت له من بحث أسأل الله أن يكون مفيدا لأخواني المؤمنين وفق النقاط التالية:
1 - معنى كلمة مثقف ورجل دين؟
2 - منشأ المشكلة بين رجل الدين والمثقف.
3 - هموم مشتركة بين رجل الدين والمثقف.
4 - تناغم وتكامل رجل الدين والمثقف.
5 - الخاتمة.
الثقافة: كلمة واسعة المعنى اُختلف في تعريفها عند المفكرين والكتاب حتى لم يحصر لها تعريفا جامعا شاملا ينطوي تحتها، وأخذت أبعادا مختلفة، وأتصور أن التعريف المناسب للثقافة هو كل علم يرفع الجهل، ويُرغب في مواصلة المطالعة في العلوم المختلفة لا لأجل الكم بل لأجل الكيف، وله أدبيات منها التعدد وقبول الآخر واحترام خيارات الآخر ونقد الآخر بما يقف عند حدود الأدب العلمي المبني على حسن الظن واختيار الألفاظ الراقية في التعبير والغاية منه خدمة المجتمع جنبا إلى جنب مع من يحمل راية الإصلاح في مجتمعه.
أما رجل الدين: فهو في المعظم ذلك الشخص الذي اختار الطريق الصعب المسلك رفيع الجوهر المحفوف بأشواك الجوع والفقر والغربة عن الأوطان كي يأتي يوما يضع ما تعلمه على بساط الرحمة والرأفة لمجتمعه مصداقا لقوله تعالى ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ التوبة.
لنبدأ بالمثقف وهو ذلك الشاب في المعظم الذي أحب القراءة في مختلف العلوم دون تخصص في علم دون آخر وجذبه الاختلاف في الرؤى والسجالات العلمية والثقافية، وأُغرم بعبارات العصر الحديث من عبارات التفخيم أمثال النخب الشبابية الطبقة المثقفة وأصحاب القلم، واستهوته الكتب الفلسفية ومصطلحاتها الرنانة من التيارات المختلفة تحت مسميات الحداثة والتنوير واللبرالية والطوبائية والسفسطائية وغيرها. فوجد فيها ما يعالج قضايا داخل مجتمعهم ويرفع الجهل عنهم، فذهب مسرعا ليمارس دور التوعية والإرشاد، ويضع بصمات الثقافة في عقول الشباب حرصاً منه أن اليوم يحتاج لطاقات فكرية تتناسب مع طبيعة المرحلة، وأن رجل الدين تقليدي في الطرح، وليس له القدرة أن ينهض بوعي مجتمعه في هذا الزمن الذي امتاز بالثورات العلمية الهائلة، وخصوصا حين يذهبون إلى بعض رجال الدين فيسفهونهم ويحتقرونهم، فتكون ردة فعل عند المثقف فتكون عنده حالة من إثبات الذات بأن ينتقد هذا، ويضرب ذلك بسوط قلمه ولسانه في المنتديات المختلفة في أواسط مجتمعه، ويدعمه في حراكه هذا لما يجده من تجاذبات بين بعض رجال الدين أنفسهم. والنتيجة أن وجد المثقف نفسه أمام خيار إثبات الذات والغاية في وجهة نظره هو تنوير عقول الشباب والمجتمع بلغة مختلفة عما كان تقليداً، ويكون حضوره حضورا فاعلا، وأن المجتمع أعطى مساحة واسعة لرجال الدين، والآن جاء دور المثقف كي نرفع المستوى الثقافي والفكري في المجتمع.
أما بعض رجال الدين فبعضهم يتحركون بمحور الحلال والحرام وإسقاط التكليف لرفع الجهل عن مجتمعه، ويحاولون جاهدينً أن يكون لهم مشروعا متكاملا من المحاضرات الإرشادية والبرامج الإسلامية كي يحصنوا مجتمعهم من ظلمات الجهل، وهم كثيرون ولكن هناك بعضهم يخطئ أحياناً في الأسلوب فينفر منه بعض الشباب نتيجة لأسلوبه الشديد أو الجاف أحيانا، وأحيانا يعزوا ما يفعلونه إلى أن بعض الأفكار الجديدة اليوم هي لعب على الذقون ومكشوفة لتمييع الشباب وتغريرهم فينتفض غيره على ذلك، فتخرج انفعالات تنفر بعض الكتاب والمثقفين عن ساحته، أو يرفض بعض البرامج التي دأب عليها الشباب في مجتمعه، لأنه يراها لا تخدم المجتمع في جوهره، ويريد أشياء أهم من ذلك تقام دون مراعاة شعور هؤلاء الشباب الذين بنوا هذا الصرح الاجتماعي بأموالهم وصحتهم وجهدهم، فيريد أخذ دور الإصلاح بأسلوب يزعج بالنسبة لهم، فينفرون منه مع العلم أن الغرض من شدته وحرصه هو ميزان الأولوية في نشر العلوم التي تزكي النفس، وتأمن من الفزع الأكبر يوم القيامة ودخول الجنة برضوان الله سبحانه وأهل بيته.
?
1 - خدمة المجتمع وذلك بنشر العلوم المفيدة والصحيحة بغرض رفع الجهل ووضع بذور العلم في عقول المجتمع.
2 - ممارسة دور في خدمة الساحة المعرفية ببصمات تكون خالدة تبقى صدقة جارية بعد وفاته.
3 - الرغبة في العلم والانفتاح على الثقافات المختلفة وأخذ المفيد منها وترك الضار منها.
4 - الاستفادة من تجارب غيرهم الذين فتحوا آفاقاً متعددة للمعارف العامة المتمثلة في الحوارات والأدبيات والمنتديات.
5 - الكتابة والتأليف ثم نشر تلك الأفكار ليكون لها ثمار تنوير العقول.
كما أنّ رجل الدين يعتقد أن ما يمارسه من توعية مجتمعه هو تكليف على عاتقه، ولذا يسلك طرق التعليم التي تعلمها من الحواضر العلمية «كالمنطق - اللغة - التفسير - الفقه - الأصول - الفلسفة - البحث في العلوم ذات العلاقة» فيرى هذا المنهج بابا للدخول في أي علم يراه طريق مأمون، لأنه يتبع منهج علمي وعقلائي. أما بعض رجال الثقافة لا يوجد عندهم منهج علمي متسلسل يعسر على صاحبه الخطأ، ولو سألنا المثقف مثلا، وقلنا في أي قضية يعطي رأيا معينا تجده يعلق ما توصل له من بحث على مشكلة وقعت له شخصية مع رجل دين ولدت عنده حالة البحث وإثبات الذات، وقد يكون الرجل المثقف صاحب نظر ثاقب يحيط بالمسألة من كل جوانبها، ويعطي للتخصص الحق في عرض رأيه، ويستفيد من أقوال المتخصصين، فيكون منهجه منهجا منظما ومتسلسلا يفضي في النهاية إلى فائدة مرجوة، وليس الهدف منه إسقاط أحد، بل هو تكامل مع الخط الديني إن لم يكن متناغما معه.
بعد النظرة العامة التي وقفت عندها أخي القارئ والمشتركات التي وجدتها ربما لمست معي أن رجل الدين قد يكون مثقفا، وهو الغالب باعتبار منهجه في الحواضر العلمية يدعوه لذلك، ولكن لكل قاعدة شواذ، وكذلك المثقف قد يكن رجل دين، ولذا تجد نماذج في العالم الشيعي التي جمعت بين المنهجين النظرية الأكاديمية وكذا الحوزوية ولعل أول من وضع بذورها عميد المنبر الحسيني الدكتور أحمد الوائلي رحمه الله، ثم سار على نهجه الكثير من الطلبة، وكذا العكس من المثقفين، فأصبح هناك تناغما ملفتا في أواسطنا الشبابية يعيش حالة من التوازن والتكامل بين هذين المسلكين المندكين في بعضهما، وليس ثمة فرق جوهري ملموس سوى الملابس، وأما الجوهر فهو واحد.
لعل البعض يقول هذه مثالية زائفة فما نراه اليوم من تجاذبات واختلافات يظهر عكس ذلك، وأقول لإخواني الأحبة ربينا مع شديد الأسف على قاعدة سيئة جدا، وأصبحت شعارا لنا وهي «الشر يعم والخير يخص»، وهذه معضلة فكرية في النسيج الاجتماعي إذ دائما ننظر للنقطة السوداء في الورقة البيضاء، وكلامي لا ينكر وجود هذه الشواذ في مجتمعنا الغالي، بل أحببت أن أقلب ميزان النظر عند الأحبة، وأقول لهم وفق تتبع في الساحة الثقافية والدينية هناك تناغم كبير بين رجل الدين والمثقف الواعي الصادق الحريص على رفعة مذهبه والكلام للطرفين.