البرمجة الإيجابية الذاتية.. طبع أم تطبّع؟.. حَدَثٌ وحَدِيثٌ ”43“
عِندمِا يَتجاذَب الناسُ، بوَجهٍ عَامٍ، فِيما بَينهُم، أطراف الحديثِ الودّي، عَن مُصطَلحِ ”البرمَجة“ بمَعناها الأَعَم الأَشمَل - في جُزءٍ مِن أَدِيم زَحمةِ عَالمِنا - المُسيّر ببرمَجةِ ”الديجيتل“ الرقمِية، إذْ غالبًا مَا يَتبادَر ويَتدانَى تَناولًا، خَفِيفًا حَثِيثًا، إلى زَحفِ مَخزُونِ تَلافِيف ”مُستقبِلاتِ“ أذهانِهم الحَاضِرة، عَن أداءِ مُهمّةِ تِلك الآلةِ المِيكانِيكِيةِ الفخمةِ، أو إتمامِ دَورةِ عَملِ لَولَبِ ذلك الجهازِ الكهربائي الأَنِيقِ؛ وتَزدَاد تنامِي عَميمِ نَسَقِ مَرئياتِهم المُتعدِّدة؛ ويَتفاقَم تَنميقِ حَميم سَالك نَغماتِ أَحّاديثِهم المُتمَدِّحة، بسيلٍ مِن وَابلٍ مُسهبٍ، مِن مَواكب مُتدفّقةٍ، مِن أَجدّ وأحدثِ قَوائم مُفرداتِ مُعجَم المصطلحاتِ الفنيةِ، بكلّ فُنونِ صِيغِ اللّغات المَنطُوقة، لأَكفأ عّملِ آلةٍ، أو صُوْعِ أداءِ جِهازٍ مُطوّرٍ، صَمّمَتهُ وأنتجَتهُ أعرَق مَصانِع التكنولوجيا الرقمِيةِ المُعاصِرةِ، ورُبّما باركَته رّاحُ أَيدٍ رُوبوتِيةٍ ناعِمةٍ؛ وبَاتَت حَضانةُ الآلةِ المُتجدّدةِ، وعِنايةُ الجِهازِ المُطوّرِ، دَاجنتَين جَاثمتَين، بأَنضر أَناقةٍ، وأَعطرِ رَشاقةٍ عَصرِيّتَين، فَوق ظاهِر ”مُتون، ومَاثِل سِنادِ“ أكتَاف ”أرفُف المَعارِضِ الفخمةِ؛ وفي سَائر جَنباتِ مُتّسعِ رَدَاهِ الأَسواقِ التجارية، تنتظرُ مُنشرِحةً مُستبشِرةً، بفارغِ اصطِبارٍ، ووّاسعِ انتِظارٍ، حُضُورِ ذَائقةِ الزبون الشاخِص المُميّز زَهوًا، بزَخمِ قُوَّتِه الشرائيةِ الذاتيةِ؛ والشامِخِ اختيالًا، بأََرنَبةِ أنفهِ، المُنتصِبةِ المُنشقّةِ بين منظومةِ صُنوفِ وصُفوفِ أَحدثِ“ المُودِيلات" الشاخِصةِ المُصطَفّةِ أصَالةً، كَحرسِ الشرف؛ والمُتباهِيةِ بأطيافِ بألوانِها وأشكالِها الجذّابة؛ يُسانِدها شغفًا، نَهمِ وحِرص بحث الزبُون المُتأني الجاذِبين، عَن سُمعةِ مُواصَفات الآلة، وقُدرَةِ أداءِ الجهاز المُطوّرين، والمُسلّحَين تَوًا، بلِباسِ أحدَث وأذكّى سِباقٍ تَسويقِي عَصرِي وَاعِدٍ، في غَمرةِ احتفاءِ الأَسالِيب المُبتكَرةِ، وصَولةِ إجلالِ فُنونِ التكنولوجيا الوَاعِدةِ؛ ليُواكِبا الإثنان مَعًا، سُمُو ذَوقِ المُتسوّق؛ ويَجتذِبا فَائق رِضاه، ويُبهرا في حَثيثِ جَولَاتِه البحثيةِ؛ ولَفيفِ صَولَاتِه التسويقيةِ الشاطِحةِ، حَاضِر دَواخِل، وشَاهِد بَواطِن استِحسانِه المُتجاسِرةِ الغَامِرةِ، قَلبًا وقَالبًا...!
وهُناك نَوعٌ خَفيٌ، مُميّزٌ مِن أنماطِ نَسقِ الاستجاباتِ المُبرمَجةِ؛ وعَادةً مَا يَكونُ مُتستّرًا كَامِنًا، في ثَنايَا أجوافِ سَرائرِ النفسِ البشريةِ؛ ورُبّما يَتشكّل ظُهورُه؛ ويَتبلوَر نصلُ قالبِ نَمطِ ”خَتمِه“ المُميّز، الذي عَادةً، مَا يُدمَغ استِحقاقًا، بقوامِ سَحنةِ خَامَتهِ المُبرمَجةِ؛ وأَحيانًا يُقدَّم استهواءً، بدَمغتَهِ المُعتادةِ البِكْر، مَحفُوفًا ببَرمَجةٍ ذَاتيةٍ جَاهزةٍ، في سَكّ أنيقِ قوالب وأنماطٍ سُلوكِيةٍ مَميّزةٍ، مُعدّةٍ ومُخزّنةٍ في جَعبةِ العقلِ الباطنِ؛ يَسْتَلُّ مِنها الفردُ دِيباجة الردَّ الفَورِي المُنفَلت بتلقائيةٍ مَحْضةٍ، لاستجاباتٍ سَلِسةِ المَوردِ، مِن سَلّةِ زَادِ المَخزُون المُبرمَج الفورِيةِ؛ الشاخِصةِ بعُودِها عَونًا، والحاضِرة بمَادّتِها فَورَ الاستِدعاءِ الآنِي، في حَافظةِ ذِهنهِ، دُونَ إِجهادٍ، أو مُواربةٍ، أو مُجاملةٍ، لظَاهِر سَوِيةِ، وسَافِر صَراحَةِ وُرُودِ ورُدُودِ تلك الاستجابة الذاتية، بتَمامِ نَسقِ تَغذيتِها الراجِعة، مَوقِفان إثنان مُتبايِنان: أَحدهما إيجابي الطلعةِ المُشرقةِ بامتيازٍ، حَيث يَعكِس حَقيقةَ طِباعِ المَشاعِر الإيجابية الصادقة، دُون تطبّعٍ يُذكَر، أو تنكّرٍ يُسطَّر؛ ويُعِبّر غالبًا، عَن صِدق جَوهرِها، بَكلّ مَعانِي الأَريحيةٍ، ودَلَالَاتِ الشَفافيةٍ الظاهِرة أصَالةً؛ عندئذٍ يَشعر الشخص المَعنِي نفسُه، ذُو النهجِ القَوِيمِ بتَمامِ حَكِيمِ وكَمالِ مُحكَمِ الاستجابات الصرِيحةِ التّربِ، المُتطابقةِ مَع حَقيقةِ صَفاءِ مَشاعرِه الداخليةِ، براحةٍ حَال نفسيتةِ، ونقاءِ استقرارِ طُمأنينتةِ الذاتيتين، اللتين تَقودَانِ ذَائقةِ مِزاجه حَتمًا، إلى حَالةٍ استثنائيةٍ مِن أَسمَى رَائق دَرجاتِ السكُون؛ وتُوصِله تَصعُدًا، إلى أَرقى مُستوياتٍ مِن التوازُنِ؛ وأنمَى مَراقٍ مِن الإرتِياح، بعيدًا عن مُخرجاتِ نَزقِ المُواربةِ الفاضحةِ؛ ونأيًا مَلحُوظًا عن كُلْفَةِ أساليب المُجاملةِ الركِيكَة…!
وفي بَعضِ الأَحيانِ، تُزرَعُ بتِلقائيةٍ عَابرةٍ أُصولُ ومَحاتِدُ نَسقِ تلك الاستجاباتِ الفوريةِ الإعتياديةِ المَاثلةِ سَلبًا، في تُربةِ مُحيطٍ عَكرٍ مُتكدّرٍ، تَصبّ غُددُه الصمّاء أَنرِيماتٍ آجنَةٍ، في مُتّسعِ أوْرِدة، وسَائر خَلايَا وأنسجةِ أُصولِ التواصُل الاجتماعي المُعتادة؛ ويُشوّش أثرُها الآسِن الفاسِد سَير مُقتضياتِ المُعامَلاتِ اليوميةِ؛ وتُغرَس - على إِثْرِها - خَبيث البذورُ ”العَقيمةِ“ في وَسطِ تُربتهِ السَبِخَةٍ المَاحِل، التى لَا يَخرجُ شَطؤهَا الفاسِد الراكِد، إلَّا نَكَدًا مَريرًا؛ ولَا يُعطِي نَاتِج ثَمرِه العَقيم، إلَّا شِيصًا رَدِيئًا، لَا يُستلَذّ طَعمُه الحَنضلِى المُر؛ ولَا يُستطَاب شَكلُه الشيطانِي النكِد، جُملَةً وتَفصِيلًا… وبعِبارةٍ أدقٍ، يُسمعُ صُراخُ و”نْباحُ“ دَويّ تلك الاستجاباتِ السلبيةِ، والردُودِ المُعتلّة، مِن فَيضِ وزَيغِ قِممِ، وأسنِمةِ سَائر أمزجةِ المُتشائمِين ”النارِية“ بمزيدٍ مُبتذَلٍ مِن خَادرِ نَفَسٍ مُترَدٍ، مِن ذَائقةِ الامتِعاضِ المِزاجية؛ وصُدُودٍ مُتشظٍ مِن سَقطٍ هَابطٍ مِن زيغِ مِزاجِ الاستِهجانِ المُسيطِرِ، يُساهمان مَعًا - إلحَاحًا وإصرَارًا - مُبَيَّتَين في تَحجِيمِ وتشوِيهِ سُلوك ومِزاج الفردِ الساخِطِ ذاتِة، إعياءً اجترارًا؛ ونَبذِ مَسلَكِه المُشِينِ اشمئزازًا، في قَعر جَعبة رَدِيء وبَذِيء قَوائمِ نَهجِ أَرْذلِ الاستجاباتِ السلوكيةِ السلبيةِ المُنفّرةِ…!
ولقد تَحدّثت، في سُطِور خَاطِرةٍ سَابِقةٍ عَن مُصطلحٍ طَلْقٍ، ذَاتي النظرةِ، أسمَيته بتّصرفٍ مُتحفّظٍ، ”بشيخُوخةِ“ المِزاج… يَنمّ عَن دَرجةِ العَجزِ المُتقدّمِ، وحَالةٍ مُشابهةٍ مِن عَدمِ الإدراكِ اللّاواعِي، التي وَصلَ إليهما الفرد الغارِق في لَفائفِ دوّامةٍ شديدةٍ مِن اليأسِ، وقَطامِير التشاؤمِ المُحبطَين؛ وحِدّةٍ مُتفرّدةٍ مِن طَيشِ المزاج السوداوي! وعَلى عَكسِ مِزاج الفردِ المُتفائلِ، ذِي نبضِ الاستجاباتِ الإيجابيةِ الصادِقةِ، تَرى الأََوّلَ يَغرقُ مُستَسلِمًا، في خِضمّ بَحرٍ مُتلاطِمٍ مِن سَوادِ وتَبابِ ظُلمةٍ مِن الإحباط؛ وحُلكَلةٍ شَديدةٍ مِن التردُّد؛ وعَتمةٍ مُطْبِقةٍ مِن الأَفكارِ السودَاوِيةِ؛ وهَجمةٍ قّاسِيةٍ مُباغِتةٍ مِن تَصعّدَ سِلسلةٍ مِن الاكتِئابِ، والقلقِ، والتوتّرِ…! ولَعلّ مَوطِئ خُطوةٍ جَريئةٍ واثقةٍ، تقودُ إلى آفاقٍ إيجابيةٍ مِن تلمّسِ بَصِيصٍِ مِن الأَملِ، ألَا وهو النبضُ الوَاعِي المَدرِك، والإِفَاقةُ المُتيقّظةُ، والصحوةُ الوِاعيةُ لِحجمِ مُسبّباتِ ومُحفّزاتِ ظُهورِ المُشكلةِ النفسيةِ المُستحوِذةِ، في فِكر ووِجدانِ مُنتَهِجِ الاستجاباتِ السلبيةِ… عٍندئذٍ تُقدَحُ شَرارَةُ التصحِيحِ لِزامًا؛ وتُضرَمُ صَحوَةُ المُراجعةِ الذاتيةِ وُجُوبًا؛ لِتقوِيمِ مًخرجاتِ السلُوك؛ وتحسِين نمطِ الاستجاباتِ الإيجابيةِ، المُنسجِمةِ والمُتناغِمةِ - كَمًا وكَيفًا - مَع سَويةِ صَفاءِ الذهنِ، وأريَحيةِ الوِجدانِ، وسُكُونِ النفسِ، المُستفِيقةِ لِتوّها… وحِينَئذٍ، قبل أنْ يَتحوّل الأمرُ المُستحوِذِ إلى دَيدنٍ عُضالٍ، ومُتلازِمةٍ عُقامٍ… وعِندئدٍ يتّمّ تصحِيح سُلوكِ الفردِ المُتأزّمِ نَفسِه بشُعورهِ المَلحُوظ، بالراحةِ والطَُمانِينةِ، والقََبُولِ، وَسَط بِيئةِ مُحيطِهِ الاجتماعِيّ المُعتاد…!
ومِمَّا تقدّم ذِكره آنفًا، بشأنِ عَملِ مِنابع قُطبَي البرمجةِ: الإيجابيةِ، والسلبيةِ معًا، لنهج الاستجابات الذاتية، أكادُ أستِشفّ وأستقرِئ، بتتبُّعٍ وتأمُّلٍ ذاتيين مُحايِدين، بأنّ مَنهج كِلَا الأُسلُوبَين السلُوكِيّين الذاتيّين، يَسيران بانفرادٍ في سِكّةِ استقامَةِ جَادةٍ مُتضادّةٍ؛ وأكادُ أَجزِم، بأنّ مَسارَ مُنتحِلِ رُدُودِ الاستجابات السلوكية السلبية، لا بُدّ لهُ - في نهايةِ المَطافُ - إلَّا أن يَؤوبَ إلى نسقِ جَادةِ الاستقامةِ المِزاجيةِ النفسيةِ؛ ويَلحقَ بصُفوفِ نُخبةِ الأَسْوِياءِ المُتفائلين؛ ويُرخِي مَن طَرَفِ حَبلِ تَشنّجهِ المزاجِي العكِر؛ ويؤوب، انتظامًا والتزامًا؛ إلى الانضمامِ المَاتِعِ الأخّاذِ، إلى سُدّةِ نادِي الأَسوِياءِ المُلتزِمِين باستِقامةِ المَشاعِرِ والمَظاهِرِ الطيّبةِ المَحموُدةِ طَبعًا ومَسلكًا، قَبلَ أنْ تَفوتهُ بِطانةُ المَقعدِ الأَنِيقِ الوثيرة، في طُولِ مَقصُورةِ رِحلةِ مَسِيرةِ الحياةِ؛ ومُتعةِ أَمَدِ العُمرِ القَصِير…!