في معنى ”عمو وجدو“
منذ سنوات، وأنا أتبادل مع صديقي المتقاعد من شركة أرامكو السعودية الأستاذ زكي حسن آل عبد الجبار «القطيف» رسائل وقصاصات وتعليقات ”وتسآبية“ مختلفة عن المرحلة العمرية التي نعيشها «فكلانا ينطبق عليه الشعر المنسوب للإمام علي ابن أبي طالب:
إِذا عاشَ الفَتى ستينَ عاماً
فَنِصفُ العُمرِ تَمحَقُهُ اللَيالي
وَنِصفُ النِصفِ يَذهَبُ لَيسَ يَدري
لِغَفلَتِهِ يَميناً مِن شِمالِ
أنا والأستاذ زكي متناغمون معا في العمر والثقافة والفكر وهو كثيرا ما يتحفني بمقالات مفيدة ورائعة عن أنواع الطعام الذي ينبغي أن يأكله الخمسينيون والستينيون، وعن السعرات الحرارية واحترازات كبار السن من بعض الأمراض، وطرائف متنوعة عن المسنين إلخ...
وكان آخر ما بعث به لي منشورا فيسبوكيا كتبه الدكتور علاء اللقطة، وهو طبيب جراح ماهر، ورسام كاريكاتير مبدع، من فلسطين الحبيبة، والمنشور على صفحته في الفيسبوك بتاريخ 9 أبريل 2023م. كتب الدكتور اللقطة ما نصه:
السادة بنك القاهرة عمان «الأردن»
تحية وبعد:
لاحظت مؤخرا أثناء زيارتي لفروعكم من أجل إنجاز معاملاتي، أن موظفات البنك يقمن بمناداتي بلفظة «عمو» لا بل يقلن: «اتفضل عمو كيف بئدر أساعدك»..
وهذا الأمر يشكل مصدرا للإزعاج لي، وللعملاء، ويخل بأخلاقيات العمل المصرفي، الذي يقوم على إسعاد العميل، وليس التسبب في تعاسته، راجين من الإدارة التصرف على وجه السرعة، واستصدار تعميم بمنع مثل هذه الألفاظ الخادشة لروح الشباب التي نتمتع بها..». انتهى كلام الدكتور علاء حرسه الله.
عندها كتبت لصديقي الأستاذ أبا محمد زكي آل عبد الجبار الخاطرة التالية:
أظن بأن تلك الكلمات التي سمعها الدكتور علاء اللقطة من موظفي بنك القاهرة نوع متقدم من الاحترام، غرضه راحة وخدمة هذا الصنف من العملاء.
وهي إشارة إيجابية ودقيقة لكل من تقاعد أو تجاوز الستين، تقول تلك الإشارة الإيجابية يا هذا: مهلا ورويدا فقد قضيت مرحلة من مراحل العمر، وأخذت حصتك منها، ولا يصح لك أخذ حصة غيرك، وأنت الآن في مرحلة جديدة لا تخلوا من الجمال والسعادة والهيبة، وأشياء أخرى كثيرة أيضا لمن أرادها.
شخصيا كنت في يوم من الأيام قلقا من يوم يشتعل فيه الرأس شيبا، ومن أحفاد ينادونني ”جدو“ وأشخاص هنا وهناك يصيحون عمو، وما أن أدخل المجالس حتى أسمع: أفسحوا المكان للحاج، وربما قالوا: للشيبة.
إلى أن اكتشفت أن ذلك كله جمال في جمال في جمال، جمال لم يكن في التفكير والحسبان، وهو طعم آخر من السعادة والراحة ربما لا يعرفه إلا من وقع فيه. وجميع ذلك مبعث روح أفضل ونشوة أكبر وحماسة متجددة.
وفي هذا المقام أذكر قول الشاعر والأديب أحمد الصافي النجفي «1897م -1977م»:
سني بروحي لا بعدّ سنيني
فلأسخرن غدا من التسعين
عمري إلى السبعين يغدو مسرعا
والروح ثابتة على العشرين
في مقابل ذلك أجد نفسي بعيدة عن الانسجام والتفاعل مع قول الشاعر العباسي أبو العتاهية:
فيا ليت الشباب يعود يوما ** فأخبره بما صنع المشيب
أخي الدكتور علاء اللقطة، وأخي الأستاذ أبا محمد آل عبد الجبار:
لا يمكن أن نأخذ حصتنا وحصة غيرنا في هذه الحياة من عمر أو رزق أو صحة أو جاه أو غير ذلك، وخاصة حصة الذين يلونا من شباب أو ناشئين أو صغار حرسهم الله.
واعتقادي الشخصي أن لكل مرحلة متعتها وجمالها، فالطفولة تعني البراءة واللعب والمرح المفتوح، والشباب سمته علو الهمة والحماسة، وربما الطيش أيضا، والكهولة هي مرحلة التأمل والتفكر والتأني، وإعطاء دروس الحياة والأمل لمن هم في المراحل المتأخرة. هذه المرحلة بالذات لو خصصها الإنسان لزيارة أحبته من أهل وأصدقاء فسيكتشف كم هي متعة تلك الحقبة؟. أما جمال الشيب، فلم أدركه بعد لأني لا زلت في داخلي شابا ثلاثينيا وأحيانا عشرينيا. وإن صار لدي اليوم أحفادا وأنتظر آخرين، فسأبقى شابا أمام جبروت السنين مستمتعا بكل أيام حياتي الحلوة، وهي كثير، والمرة أيضا، التي جوهرها حلاوة. يقول مولانا جلال الدين الرومي: «بالمحبة تصبح المرارة حلوة وبالمحبة يصبح النحاس ذهبا وبالمحبة تصبح الآلام شافية».
وفي موروث العرب أن شرب القهوة المرة بعد التمر أكثر نكهة ولذة والحمد لله رب العالمين.