التلقين يفسد الفكر
من الواضح جدًا أنَّ التلقين في مجتمعنا يأخذ حيزاً كبيراً، ومن خلال حضور التلقين الواسع يغيب التفكير الناقد. أعتقد بأن مناقشة التلقين على أنه أمر سيئ ويُصيب الفكر بالجمود لا يلقى قبول، إذ التلقين يحضر بشكل واسع وبعدة أنواع، ولعل المتأمل في الواقع الاجتماعي يرى هذا بكل وضوح. لذلك أصبح الناقد لا يلقى قبولًا أو بشكل أوضح النقد لا يلقى قبولًا واهتمامًا، بسبب الاعتماد على التلقين وهيمنته على الوسط الاجتماعي. اعتياد المرء على تلقي الأفكار بدون غربلتها معناه أن يبقى الفرد تحت تأثير هذه الأفكار، وربما تحت تأثير قائلها، إذ يصبح قائل الفكرة من مجرد شخص يملك رأيًا ما إلى شخص فوق النقد. عندما يصبح المرء فوق النقد، تصبح الأفكار بِلا قيمة، قيمة الأفكار أن يتم نقدها وغربلتها، وإعادة صياغتها إن تطلب الأمر والنظر إليها من زوايا عديدة.
خطورة التلقين تكمن بأن يغيب الفرد عن إنتاج الأفكار والتعامل معها، ويصبح أسيراً لأفكار الآخرين. ويظهر هذا الأمر عندما تشتد النقاشات، إذ البعض ينقل آراء الآخرين على أنه رأيه، والآخر ينقد آراء الآخرين وينتج آراء خاصة به، لا أعني بأن الفرد لا يتشارك مع الآخرين في آراء وأفكار عديدة، لكن عليه أن لا يصبح مجرد ناقل لآراء الآخرين ويضعها في إطار القداسة. بعض القراء عندما ينعجبون لكاتب معين يضعونه ويضعوا أفكاره في إطار القداسة، وكذلك بعض المستمعين لخطيب معين تراهم يضعونه ويضعوا أفكاره في إطار القداسة، ربما بسبب تأثرهم بخطابه أو محبتهم لهذا الخطيب. يجب أن تتحرر الأفكار من السلطة التي تحتويها وتحتوي صاحبها، لأننا بحاجة أن نرى بعينين لا عين واحدة ترى جزءاً معيناً وتغفل عن جزء آخر.
علينا أن نتعامل مع الأفكار بكونها تحتمل الصواب والخطأ ولا تحمل قدسية فوق النقد، بمعنى أننا قد نقبلها والآخرين قد يرفضونها، لا لأننا على حق وهم على باطل، بل لأن لكل منا تعامل وفهم خاص للأفكار بشكل مختلف. وهذا ما علينا أن ندعو له، لا الصورة الأُحادية التي ترى صحة الأفكار في جهة معينة، وتغفل عن الجهات الأخرى، لذلك يجب أن نرفض التلقين لا أن نقبله، بمعنى أنَّ أي شخص يُلقي أفكاره علينا أن نحتمل صحتها لا قبول فكرته بشكل مطلق ونغفل عن تفكيرنا الناقد. إذًا، نحن بحاجة أن نتيح فرصة للناقدين بكونهم أصحاب آراء، بعيدا عن صحة رأيهم، لا أن نغلق الباب في وجه الناقدين لأننا نملك مشاكل شخصية معهم أو نختلف معهم في المنهجية الفكرية.