آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 12:36 ص

بين الحالة والسّلوك.. قراءة في مجموعة «نزف من تحت الرمال» لحسن البطران

الدكتور مسلك ميمون *

القصة القصيرة جداً انطلقت في السّعودية أواخر السّبعينيات من القرن الماضي وذلك بمجموعة «الخبز.. والصّمت» لمحمد علوان سنة 1977 والتي استقبلها الواقع الثقافي بنوع من اللا مبالاة ككل الفنون الجديدة الصامدة. وبخاصّة أن الوضع التّعليمي والثّقافي في المملكة، لم يكن قد وصل إلى ما هو عليه الآن. ولهذا تلا هذه المجموعة ركود ملحوظ استمر أكثر من عقد من الزّمن قبل أن تظهر بوادر المجموعات في هذا الجنس الأدبي تباعاً «حادي بادي» لناصر تركي السديري سنة1991 و«فراغات» لعبد العزيز صالح سنة 1992 التي تعد البداية الحقيقية للق قج في السّعودية ثمّ تلتها «أثوابهم البيض» ليوسف رجعة المحيميد سنة 1993.. واستمر العطاء إلى سنة 2009 حيث ظهرت مجموعة «نزف من تحت الرمال» للقاص حسن علي البطران. كما ظهرت في نفس السنة مجموعة «ظل الفراغ» لسهام العبودي وبذلك تعرف جمهور القراء على أسماء كان بعضها قد مرّ بكتابة القصة القصيرة، ومنها من باشر كتابة الق ق ج مباشرة، وتهمّنا مجموعة «نزف من تحت الرمال» لحسن علي البطران، والتي هي من إصدارات نادي القصيم الأدبي ببريده، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى سنة 1430 هجرية الموافق لسنة 2009م. في حجم متوسط، وإخراج بديع، ولوحة الغلاف عبارة عن رسم للطفل ريان حسن ثلاث سنوات. أمّا عدد النّصوص فأربعة وثمانون نصاً، شغلت مائة وسبعة وثمانين ورقة وبذلك تكون أكبر مجموعة صدرت لحد الآن.

المجموعة على اختلاف مواضيعها، يجمع نصوصها خيطان رفيعان: الحالة Cas والسلوك Comportement. ولقد عمد القاص في معظم النصوص على البساطة، ولكن في غير ما تبسيط مخل في الشكل وكأنه في ذلك يستجيب لقولة انشتاين: «يجب عمل كل شيء ببساطة ما أمكن، ولكن ليس بشكل متبسط.».

الحالة: حالة الشّخصية المستهدفة في النّص. وما أكثر الحالات التي تشكل المواقف، والمبادئ، والاختيارات.. سواء منها الاجتماعية، أو النفسية أو السياسية... وشكّلت النّصوص في هذا الاتجاه سبعاً وثلاثين نصاً.

أمّا السّلوك: ويراد به ما يصدر عن الشّخصية من انفعال، وردّات أفعال، سواء مناسبة وهادفة، أو طائشة ومتهافتة. وشكّلت ستاً وأربعين نصاً.

قد يعود هذا الاهتمام اللافت بين الحالة والسّلوك. إلى طبيعة الوظيفيّ والعمليّ في حياة القاص، لاشتغاله بقطاع التّربية والتّعليم. بالدرجة الأولى. وقد يعود إلى الوضع العام الإجتماعي في السّعودية، ومدى تمخّض الظّواهر، والحالات الاجتماعية، والسياسية والاقتصادية وتأثيرها المباشر على المواطن، في مغالبته لليومي والمعيشي... ما يشكل حالات بشرية متفاعلة منسجمة ووسطها، أو متمردة ثائرة ساخطة، أو خاضعة خانعة راضية. كل وحسب مزاجه، وتكوينه وتربيته. الشيء الذي تتبلور عنه سلوكات مختلفة. تشكل الذّات الفاعلة، ومدى إدراكها، ووعيها، بالقيم والمبادئ، والنّظم المحلية، والعادات والتّقاليد، والأعراف الأهلية، وما يحيط بكلّ ذلك من ثقافات أخرى، وما يتسرب منها رغم الحرص والاحتراس محدثاً شرخاً في البنى النّفسية والاجتماعية والثقافية...

نصوص المجموعة تندرج في إطار الق ق ج. وإن كان بعضها يندرج في إطار الومضة. بمعنى أنّ الق ق ج تسمح بتطور الحدث إلى أن يكتمل أو يكاد فيختم بقفلة résolution تعمق الوعي، والإحساس به. بيد أنّ الومضة، وهي أصغر وحدة سردية: تأتي بالحدث كاملا، وتشفعه بقفلة تربك الوعي به، أو تعمّقه. فالفرق بين الجنسين التّطور من أجل الاكتمال والاختتام بقفلة. والاكتمال والاختتام بقفلة.

كما نجد نصوصاً في المجموعة محكمة البناء والسّرد، مستجيبة لمكونات هذا الفن الأدبي السّردي، وأخرى جاءت على درجة من الغموض والإبهام. والبعض الآخر لا يمت للجنسين بصلة من حيث التّركيب والبناء.

فمن النصوص اللافتة نقتطف هذه العناوين كأمثلة: «رجولة، اهتمام، امتصاص، رائحة العلقم، سراب، نضوج، هوس، منظار، تبخر أمل، فضيحة لون، قفزة، وللضوء لون أسود..»

1 ظواهر اجتماعية:

الظاهرة الاجتماعية أهمّ ما يشد القاص، فيوليها كبير عناية. وبالغ الاهتمام.. وفي هذه المجموعة عدّة نصوص تدور حول هذا الغرض: تارة بالإشارة والتّلميح، وتارة بالتّركيز والتوضيح مع ضمنية نقدية. ففي نص «رجولة» انتقاد صريح لزواج الفتاة الصّغيرة، برجل أكبر منها. وهي على جهل تام بكلّ ما ينتظر منها. وما ينتظر منها أكبر من سنها وعقلها.. والدنيا حولها زغاريد وفرحة «من ورائها أسراب تغني وترقص» وهي بين الفرحة التي لا تعرف معناها، والخوف والقلق من الآخر الذي يدخل عليها و«من خلفه يحكم الباب» تراه أمامها وحشاً كاسراً، تهابه، وتبتعد عنه: «تنزوي في زاوية غرفتها، يدنو منها تضطرب وتتراقص أطرافها، وتتهاطل مطراً..!» ويزيد من هولها وفزعها، الباب الذي يقرع، وهذا الذي تريده أمّ الزّوج، وتطالب به من خلف باب مخدع الزّفاف: «أتستحق لقب خليفة أبيك..؟؟!!» صورة قاتمة يرسمها النّص لليلة الدّخلة. التي ولاشك ستترك أثراً سيئاً، وعميقاً في نفسية العروسة الصّغيرة. أمّا «الرجولة» ومن خلال النّص، فقد انحصرت فيما هو إيروسي «جنسي» شبقي يؤدي إلى الفضّ فقط. وفي ذلك تلميح لما صار إليه مفهوم الرجولة، من انحصار، وما ابتعد عنه من قيم وخصال..

فنياً: النّص تحاشى التّركيز والإيجاز الذي هو من خصائص الق قج. وعمد إلى الوصف والتّوضيح. «تتأمل نقوش حنائها التي تطفو فوق أديم يديها» أو «هالات مضيئة تعلو سماء سمرتها، ونهر دموع عينيها يجري ويروي عطش بستانها؛ ويزيد لمعان زجاجات براءة فرحتها..» ص39

وفي نص «امتصاص» نصادف هذا الاختلال في الحياة الزّوجية، حين يكون الزّوج في منتهى عطائه وفحولته، وتصبح المرأة أقلّ تحفيزاً ورغبة. فتختلّ العلاقة وتفتر: «ماؤها البارد أصبح لا يروي ظمأه! شعرت هي بذلك» ولكن شعورها جاء متأخراً «بدأت تنقب في ساحة أرضها عن بئر أخرى..اكتشفت آباراً عديدة، لكن بعد فوات الأوان.» ص107

فنياً: النص اعتمد لغة التمثلات الدلالية représentation sémantique هذه لغة تصلح للقصّة القصيرة أو القصّة. بينما بالنّسبة الق ق ج فلا بدّ من لغة تحظى بنظام ترميزي إيحائي، فهي بذلك أقرب إلى لغة الشّعر.

ثمّ هناك نص «رائحة العلقم» الذي تلخصه عبارة «العرق دسّاس»: وجد غصناً ملقى على حافة الطريق، أخذه وغرسه وسقاه فاخضر وأينع «و بعد فترة أصبح وكأنّه شجرة من عشرات السنين في أصالتها وعراقتها..!!» بل أثمرت وأصبحت ثمارها مغرية وجذابة.. ولكن ليس الأمر في الشّكل «حينما تتذوقها تجدها مرة وعلقمية..!» وتوضح القفلة الإشكال: «بعد تصفح تاريخ هذا الغصن تبين أنّه يعود إلى بقايا نبات له علاقة بشجر الحنظل!» ص 107

ثمّ نص «السّراب» حيث يلعب المال والجاه والسّلطة دوراً قد لا يخطر على بال. حتّى في العلاقة الزّوجية «الضّيوف يتناولون العشاء في صالة الضيافة الخاصة بقصر الأفراح.. أكثرهم من الطبقة المخملية..بعد ضيافتهم تفاجأ الجميع أنّ العريس ليس هو العريس!» مفاجأة ليس من السّهل تمريرها أو تقبلها، لأّنّ عريساً آخر يجلس في المنصة! ترى ماذا وقع؟ فتخبرنا القفلة: بأنّ «الوردة المقطوفة له، ليست من اختياره..» ص115

أمّا نص «فضيحة اللّون» فيجسد الخيانة الزوجية. اعتاد الزوج أن يستشير أبناءه في كلّ شيء كطبع وسلوك ديمقراطي، يريد ويرغب أن يرسخه في طبع الأبناء. فحين اعتزم شراء سيارة «عقد اجتماعاً لاختيار لونها..تباينت الآراء واختلفت الأذواق بين الأعضاء.. ولكن اتّفق الجميع أن يكون رأي مها هو المرجح» ولكن رأي الصّغيرة مها زلزل البيت، وأتى على كلّ شيء: «يكون لون السيارة كمكياج «ماما» حينما تكون مع «عمو» سلطان!» ص155

2 ظواهر نفسية:

وفي نص «اهتمام» يستوقفنا هذا الاهتمام الغريب بالممتلكات الشّخصية مهما قلّت قيمتها لدى الناس: لقد فقده بعد أن كانت عنايته به فائقة «يهتم به كثيرا؛ يتفنن في نظافته والاعتناء به.. يفضله كأصغر أبنائه» فيشتط غضباً لما تأكد ألا أحد من أفراد الأسرة رآه أو يعلم عنه شيئًا.. فيزداد شوق المتلقي لمعرفة هذا الفقيد العزيز.. ترى ما يكون؟ فتأتي القفلة: «بعد ساعات خمد بركانه! عندما وجده عنده حفيده يقص به ورقً ملوناً.» ص75

وفي نص «نضوج» نقف أمام حالة متكررة في كلّ أسرة فيها بنات، يبلغن سنّ النّضج. ويفاجأن بهذا السّائل يتدفق فجأة وبغير إنذار، ولم يتعوذن ذلك، ولم يخبرهن أيّ أحد، فيكون الرّعب الشّديد، والانفعال والقلق، والتّوتر والهلع... «أمي..أمي..سأموت، سأموت!!» فتأتي القفلة وكالعادة مفتاحاً للمنغلق، وإضاءة للمعتم المظلم.. «ابنتي لقد أصبحت امرأة..» ص119

وفي نص «هوس» يجد القارئ نفسه أمام حالة هوس وحبّ استطلاع، وفضول معرفة.. قد يؤدي أحيانًا إلى ما لا تحمد مغبته. وهو نص رمزي تلميحي.. «ينظر إليها وهو على الضفة، يراقبها، عيناه تحومان حولها.. ويسأل نفسه: لماذا تظل ورقة التفاح تطفو ولا تغرق؟» ورقة التفاح هنا القضية الغامضة، الإشكال الذي يستفز ويدعو إلى البحث والمعرفة، ولعلّ إدراك الحقيقة ليس بالسّهل دائماً، بل لا بدّ من مغامرة. إمّا مدروسة ومحسوبة العواقب. وإمّا مغامرة انتحارية مآلها الضياع. كما هو في هذا النّص: «يرمي بنفسه وينسى ذكره للأبد وتبقى الورقة..!» ص123

وفي نص «وللضوء لون أسود» نلامس حالة نفسية لدى بعض النّاس، تتمثل في الجشع وحبّ المزيد، وطلب تحقيق المستحيل.. والنّص في ذلك، يستند إلى الرّمز اللّغوي «جمع ضوء الشمس منذ إشراقتها وقدمه كهدية لها! وقالت له: هل هنالك شمس أخرى؟!» فلم يجد أمامه من سبيل إلا أن يرمي بنفسه في النهر. عسى برودة الماء تطفئ أوار غضبه، ومع ذلك غادر النهر ليبحث «عن شمس لكن ليس لها ضوء» ص159 لترضية جشع ورغبة زوجته، التي لا يرضيها ولا يقنعها أيّ شيء.

وأخيراً في نص «رمال متحركة» يستعيد القارئ المقولة الشّهيرة عن النّساء وطبعن: «يتمنعن وهن الراغبات» والتّمنع عرفت به المرأة منذ القديم، حتّى صار من طبعها في تعاملها الخاص، كما هو في النّص بنزعة رمزية خاصّة: «نظر إليها وهي تحرس تفاحاً يتموج احمراراً وسط صحراء جرداء.» إذاً أعجب بها وبصدرها الناهد. سألها القرب منها «أراد أن يشتري منها هذا التفاح» ولكنها رفضت فغطته وقالت: «الآن ليس للبيع فأنا أحرسه منذ أن أينعت ونضجت..» ولكن انطفأت الشّمعة التي كانت تضيء المكان «و سقطت واحتضنها وأمسكت يده التفاح» ص175

أمّا النّصوص التي طغى عليها الإبهام، والغموض فنخصّ بالذّكر: «عناق، انتصار حمامة، جموح، غذاء ولاء، مراودة، ميلاد جديد، جرح، غرابيل..»

ومنها هذا النص الذي يحمل عنوان: جموح

صافحت يده يده حينما التقى به عند مدخل المدينة وقال له:

"اصعد القمر كي نزرع شجرة!

صهيل الخيل ألجمه..

وما زالت البئر تأوي يوسف..! "

وهناك ما يسمى بالومضة ومنها: «توهم، سرقة، الغسيل، غيرة، عولمة، إتيكيت، صدى، طيبة، منظار، المعول، تبخر الأمل، حاجة، قفزة، كيان، صمت، اعتصام»

ومنها ننتقي هذا النص تحت عنوان: منظار

" ينظرون إليه وهو فوق النخلة يجني الرطب.

هو: أراكم صغاراً! "

وإلى جانب هذا، هناك نصوص كتبت بطريقة مختلفة، ليست بالق ق ج أو الومضة وإنما فيها من ملامح الخاطرة والكتابة النثرية الفنية، ما يجعلها أقرب إلى مقاطع من قصائد نثرية مثلا: «نزف، بصمة، شلل، عاصفة، لكن..، مستقبل، ظمأ، سؤال، توحد، رائحة نفاق، تعصب، قارورة، وفاء، عباءة، ضباب، ندى الغروب، قانون، عمق حب، شيطان، غذاء ولاء، الفنجان، بصيص، قلم باهت، مأوى، ميلاد جديد، رائحة نفاق، بائع الماء، رماد بألوان قوس قزح، رائحة اللّون، لكلّ موسم فاكهة، براءة رمال، غصن رمان، فصول، حقد، انتكاسة، انفلات، جموح، سقوط، البراشوت، انتظار، نبش في الظلام، وطن..»

وعموماً مجموعة ”نزف من تحت الرمال“ أضمومة من الق ق ج ومن الومضات وباقة من النصوص النثرية القصيرة، التي تعتمد وصف الحالة، أو إبراز السلوك. ولكن بطريقة فنية سواء في إطار من الق ق ج، أو الومضة، أو الخاطرة القصيرة.

أستاذ ، مهتم بالدراسات و الأبحاث النقدية.. تخصص البلاغة و النقد