شهر التوبة 25
الترفع عن فحش الكلام يعلي من قيمة الإنسان، فاللسان تارة يكون أداة للوصول إلى المراتب العليا، وتارة أخرى يسقط صاحبه إلى الدرك الأسفل، حيث يمثل الكلام الحلو والمباح طريقا إلى قلوب الآخرين، ”من أطلق لسان أبان سخفه“، فالبيئة الاجتماعية تنفر من أصحاب الكلام الفاحش، الأمر الذي ينعكس بصورة مباشرة على مستوى العلاقات الاجتماعية، فالفئات الاجتماعية تجد نفسها منجذبة نحو أصحاب الكلام الحلو والجميل، ولكنها لا تميل نحو أصحاب اللسان الفاحش، ”اللسان سبع، إن خلّي عنه عقر“.
الافتقار إلى الإمكانيات وانعدام القدرة على احتواء المحيط الاجتماعي، وكذلك الإحساس بالحقارة الذاتية، فضلا عن استبطان الحقد تجاه البيئة الاجتماعية، عناصر محرك لانتهاج مختلف السبل في سبيل إظهار الجانب الشيطاني في السلوك الظاهري، حيث يمثل اللسان المحرك الأساس في الإضرار بالآخرين، والعمل على نسج مختلف الاتفاقيات، مع مختلف الأطراف في سبيل الانتقام من البيئة الاجتماعية، خصوصا وأن الفشل في الارتقاء إلى المقاعد الاجتماعية الأمامية، يحرك السلوك الشيطاني بطريقة مقصودة، ”العاقل مع عقل لسانه“، ”لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الجاهل وراء لسانه“.
اختيار المفردات المهذبة في الممارسات الحياتية، وكذلك العمل على تشذيب الكلام، وعدم إطلاق الكلمات النابية، يكشف رجاحة العقل، وكذلك القدرة على السيطرة على الانفعالات الناجمة، عن العلاقات الاجتماعية، ”ينبئ عن عقل كلّ امرئ لسانه“، ”يستدل على عقل الرجل بحسن مقاله“، وبالتالي فإن المرء القادر على التعاطي بطريقة حسنة مع الآخرين، والحرص على امتصاص الغضب بطريقة ذكية، يصبح أكثر قبولا لدى الفئات الاجتماعية، فالسيطرة على اللسان يساعد في وضع الأمور في المكان المناسب، مما ينعكس بصورة مباشرة على طبيعة العلاقات الشخصية، مع المحيط القريب والوسط الاجتماعي.
الحرص على مقابلة الإساءة بالحسنى، أحد العوامل الأساسية وراء امتلاك القلوب، فالمرء القادر على تحويل الإساءة إلى عنصر استقطاب، يصبح محوراً أساسياً في البيئة الاجتماعية، ”ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك“، وبالتالي فإن توظيف اللسان بالطريق المثالية، وتحويله من أداة طاردة إلى عنصر جاذب، يكشف المكنون الحقيقي لطبيعة المنظومة الأخلاقية، التي تحرك الإنسان على الصعيد الشخصي عبر احترام الذات، وعدم النزول إلى المستويات الأخلاقية الهابطة، وكذلك على الصعيد الاجتماعي من خلال إظهار الاحترام للآخرين، والابتعاد عن الاعتداء على الصغير قبل الكبير، نظرا لوجود منظومة أخلاقية تشكل حاجزا حقيقيا، في رسم طبيعة العلاقات الاجتماعية، ”لا تسيء اللفظ وإن ضاق عليك الجواب“، ”واحفظ لسانك واحترز من لفظه، فالمرء يسلم باللسان ويعطب“.
شهر رمضان المبارك أحد المواسم السنوية، للدخول في ممارسة عملية لضبط اللسان، من الخوض في أعراض الآخرين، فهذه الشعيرة الإسلامية قادرة على إحداث تحولات سلوكية عديدة لدى الصائم، من خلال إعادة برمجة بعض السلوكيات الشاذة بالاتجاه الإيجابي، حيث يشكل اللسان أبرز مظاهر تلك السلوكيات الشاذة، فالصائم حريص على إظهار الممارسات الحياتية بالطريقة المناسبة، مما يدفعه للعمل على امتصاص مختلف أشكال الاستفزازات خلال الشهر الكريم، الأمر الذي يترجم بطريقة واضحة في إخراج الجانب السلبي، من السلوك الشخصي، والتمسك بالقيم الأخلاقية الفاضلة، وبالتالي فإن فريضة الصوم تشكل مدخلا في إعادة ترتيب السلوك لدى المسلم، عبر وضع قواعد أخلاقية راسخة في المسيرة الحياتية، والعمل على إزالة مختلف أشكال الممارسات الأخلاقية الخاطئة، ”بلاء الإنسان في لسانه“.
الإمام علي بن الحسين السجاد يقول في دعائه بمناسبة دخول شهر رمضان المبارك "اللهم: صل على محمد وآله، وألهمنا معرفة فضله، وإجلال حرمته، والتحفظ مما حظرت فيه، وأعنا على صيامه بكف الجوارح عن معاصيك، واستعمالها فيه بما يرضيك، حتى لا نصغي بأسماعنا إلى لغو، ولا نسرع بأبصارنا إلى لهو، وحتى لا نبسط أيدينا إلى محظور، ولا نخطو بأقدامنا إلى محجور، وحتى لا تعي بطوننا إلا ما أحللت، ولا تنطق ألسنتنا إلا بما مثلت، ولا نتكلف إلا ما يدني من ثوابك، ولا نتعاطى إلا الذي يقي من عقابك.