آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 10:22 م

شهر التوبة 24

محمد أحمد التاروتي *

السيطرة على الجوارح تربية روحية، تتطلب الكثير من مجاهدة النفس، فالغرائز على اختلافها تدفع الإنسان للسقوط نحو الهاوية، فيما مقاومة تلك الشهوات ترفع الإنسان نحو الأعلى، فصلاح الذات يكمن في مخالفة النفس على الدوام، خصوصا وأن العقل يحض على انتهاج طريق الصلاح والاستقامة، حيث يدفعه لإرشاد المرء نحو الطريق السليم، عبر رفض مختلف أشكال الاستجابة للنفس الأمارة بالسوء.

مخالفة النفس واختيار الطريق الصعب عملية مستمرة، وليست مرهونة بفترة زمنية، فالمرء في الحياة معرض للكثير من الامتحانات الصعبة، مما يستدعي امتلاك الأدوات اللازمة لتجاوز تلك الامتحانات، خصوصا وأن التعامل مع الغرائز والشهوات يحدد مصير الإنسان، سواء بالنجاة أو السقوط، وبالتالي فإن ترويض الذات وعدم الخضوع لمختلف أشكال الإغراءات، عملية أساسية للخروج من الامتحانات الصعبة، ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [المؤمنون: آية 115] و﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [النور: آية 21] و﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر: آية 6]

العامل الديني يشكل عنصرا محفزا، لمقاومة كافة أشكال الغرائز والإغراءات الدنيوية، فالمسلم يحرص على مرضاة الله، والاجتناب عن المعاصي، حيث تشكل العبادات والطاعات طريقة نحو التقرب إلى الله تعالى، فكلما زادت العلاقة مع الخالق كلما استطاع المسلم تجاوز الكثير من الامتحانات الحياتية، خصوصا وأن المسلم يضع الجنة نسبا عينيه، في مختلف ممارساته العبادية، بحيث يتجلى في خضوع العلاقات الاجتماعية للموازين الدينية، من خلال اعتماد وسائل مباحة، عبر اتخاذ الأوامر الإلهية معيارا أساسيا، في تحديد أشكال العلاقات الاجتماعية، بواسطة رفض التعدي أو الاستيلاء على حقوق الآخرين، أو غيرها من الممارسات المحرمة.

الحرص على الالتزام بالواجبات واجتناب المعاصي، مطلب كل مسلم في الحياة، بيد أن الوصول إلى تلك الغايات يمثل الاختبار الحقيقي، فالكثير يتساقط في بداية الطريق، والبعض الآخر يفشل في الصمود حتى منتصف الطريق، بينما ينجح البعض في المشوار المحفوف بالمخاطر، من خلال اعتماد الوسائل والآليات القادرة على تحريك العقل، بهدف السيطرة على النفس الأمارة بالسوء، حيث يتجلى في الكثير من الممارسات الشخصية، وكذلك التعاملات الاجتماعية، خصوصا وأن مخالفة النفس وعدم الوقوع في فخ الإغراءات والشهوات، إحدى الأدوات الرئيسية للتقرب إلى الله تعالى، من خلال تعظيم الجانب الروحي، والحرص على أداء الطاعات، ورفض جميع أشكال التكاسل أو الخمول، في القيام بتلك العبادات، الأمر الذي ينعكس بصورة مباشرة على الصعيد الروحي.

الصيام من العبادات القادرة على ترويض الذات، ومقاومة الإغراءات على اختلافها، فالصائم يضع مرضاة الله في المقدمة، عبر الإمساك عن الطعام والشراب لساعات طويلة، بالإضافة لذلك فإن غض الطرف عن المحرمات أثناء الصيام، يعزز القدرة على مقاومة غرائز النفس، وبالتالي فإن امتلاك تلك الإرادة يشكل طريقا، نحو الإمساك بزمام الأمور بالطريقة السليمة، بحيث يصبح العقل صاحب اليد الطولى، في الممارسات سواء العبادية أو الاجتماعية.

الصائم مطالب في تسخير الجوارح على الدوم في مرضاة الله، خصوصا وأن تلك الجوارح تمثل نقطة الضعف لدى الإنسان، في الاستجابة السريعة للمغريات الدنيوية، الأمر الذي يفرض انتهاج آليات ووسائل، لوضع تلك الجوارح في المكان المناسب، حيث يقول الإمام السجاد في دعائه بمناسبة دخول شهر رمضان المبارك "اللهم: صل على محمد وآله، وألهمنا معرفة فضله، وإجلال حرمته، والتحفظ مما حظرت فيه، وأعنا على صيامه بكف الجوارح عن معاصيك، واستعمالها فيه بما يرضيك، حتى لا نصغي بأسماعنا إلى لغو، ولا نسرع بأبصارنا إلى لهو، وحتى لا نبسط أيدينا إلى محظور، ولا نخطو بأقدامنا إلى محجور، وحتى لا تعي بطوننا إلا ما أحللت، ولا تنطق ألسنتنا إلا بما مثلت، ولا نتكلف إلا ما يدني من ثوابك، ولا نتعاطى إلا الذي يقي من عقابك

كاتب صحفي