فنلندا عضو في حلف الناتو
في يوم الثلاثاء، الموافق الرابع من هذا الشهر، أُعلن انضمام فنلندا لحلف الناتو، لتحمل الرقم ال31 في سجل أعضائه، وليرفرف العلم الفنلندي فوق مقر الحلف في بروكسل. وقد اعتبر الحدث من وجهة نظر عدد من المحللين السياسيين، بأنه تحول تاريخي، عن السياسة السابقة، التي اعتمدت الحياد، رغم الأحداث العاصفة التي مرت بها القارة الأوروبية، والتي لم تكن بعيدة عنها. لقد تم اجتياح هذا البلد، من قبل ستالين، عام 1939، لكن ذلك لم يدفع بالحكومة الفنلندية إلى تغيير سياستها، فما الذي تغير الآن؟ وهل هناك تهديد حقيقي يحيق بأمنها؟ وما هو مصدر هذا التهديد؟
الأسباب المعلنة لكل من السويد وفنلندا طلب الالتحاق بحلف الناتو، هي الخشية من تمدد سياسة التوسع الروسي، الذي بدأ مع العملية العسكرية بأوكرانيا لتشمل الدول الاسكندنافية، وفي رأينا فإن هذا السبب لا يصمد أمام التحليل والقراءة المنطقية لتداعي الأحداث. فأوكرانيا كانت لحقب طويلة جزءاً من روسيا القيصرية. وقد باتت جزءاً من الاتحاد السوفييتي حتى لحظة سقوطه في مطلع تسعينات القرن الماضي. والعلاقة بين روسيا وأوكرانيا محملة بمواريث ثقافية وتاريخية، لا يمكن تجاهلها، من قبل أي كان.
روسيا الاتحادية، حتى في أقصى حالات ضعفها لم تتوقف عن الحديث عن تلك المواريث وعن علاقتها التاريخية والثقافية، بالناطقين باللغة الروسية من الأوكرانيين. وهناك من يصنف اللغة الأوكرانية ذاتها، بأنها إحدى لهجات اللغة الروسية. ليس ذلك فحسب، بل إن البلدين يتبعان لكنسية واحدة هي الكنسية الأرثوذكسية. وفي التاريخ القديم هناك تبادل في الجغرافيا بين البلدين، فتكون هذه المنطقة روسية أحياناً، وأوكرانية في أحيان أخرى. وخير مثال على ذلك هي شبه جزيرة القرم، التي عاودت روسيا الاستيلاء عليها عام 2014، بما يعني أن الصراع الروسي - الأوكراني الراهن، قد جاء ضمن سياق تاريخي لا يمكن تغاضيه، وليس له أي شبه في علاقة روسيا بالدول الإسكندنافية.
لقد حافظت السويد وفنلندا على حياديتهما لفترة طويلة، وفي أشد حالات التوتر في العالم. لم تشارك السويد في الحربين العالميتين، وكسبت ودّ وصداقة الجميع. وربما تكون خشيتها مبررة، لو وجدت أثناء الصراع العقائدي، بين الغرب الرأسمالي والشرق الاشتراكي، خاصة وأنها تشق طريقاً رأسمالياً، مع الاعتراف بخصوصية ذلك الطريق. ومع كل ذلك حافظت الدول الاسكندنافية على حياديتها، ولم تغرق نفسها في متاهات الحرب الباردة. إذاً، ما هي الأسباب الحقيقية التي تدفعها الآن لتغيير سياساتها؟
كلمة السر كما نراها تختزل في حلف الناتو، وفي رغبة الولايات المتحدة تمدّد هذا الحلف، ليطوّق الجغرافيا الروسية من كل الجهات. والسبب ذاته هو الذي دفع بحكومة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، شنّ عمليتها العسكرية الخاصة، لإزاحة المسدس المشهور على رقبتها، ولمنع أوكرانيا من الالتحاق بالناتو. إنها رغبة الغرب، في إنهاء سياسة الحياد بالدول الاسكندنافية، وإلحاقها بفلكها العسكري. وهي رغبة لن تسهم في تعزيز سلام تلك الدول، بل ستغرقها في مشاكل لا ناقة لها فيها ولا جمل، مشاكل كانت بعيدة عنها، لعقود طويلة رغم أن الجغرافيا وضعتها في القلب من تلك الأحداث.
السؤال المنطقي والبديهي الذي ينبغي أن يطرح، هو عن مدى فاعلية التحاق فنلندا والسويد، بحلف الناتو، وهل سيتكفل هذا الانضمام بحمايتها إلى ما لا نهاية من «الغزو الروسي». الجواب بكل جزم، أن البلدين باتا بوابة الصراع العسكري بين روسيا والغرب. وأن من الطبيعي أن تستعد روسيا لكل الاحتمالات، وأن تكون فنلندا، التي انضمت مؤخراً، والسويد حال انضمامها في أعلى قائمة الضحايا لأي حرب نووية محتملة، كونهما عضوين في حلف الناتو. وقد نقلت الأنباء مؤخراً، تعزيز روسيا لترسانتها النووية على الحدود مع الدول الإسكندنافية، وهي حدود طويلة بكل المقاييس وقابلة للاختراق من مناطق عديدة.
تركيا تدرك مخاطر دخول فنلندا والسويد لحلف الناتو، على الأمن القومي الروسي، وتضع العراقيل لتحول دون التحاقهما بحلف الناتو. تتعلل بوجود أكراد من الأتراك، معادين لسياساتها، يقيمون منابرهم الإعلامية في السويد وفنلندا. وتحقق حكومة أردوغان بهذا الموقف مكسبين، الأول مغازلة الاتحاد الروسي، الذي يعمل على إعاقة التحاق الدول الاسكندنافية بالناتو، والثاني، وهو أمر ممكن جداً، إغلاق المنابر الكردية في الدول الاسكندنافية الموجهة ضد سياسة بلاده.
أمام حالة الجنون المستعر، يبدو أن العالم بأسره مقبل على أحداث جسام، وليس علينا سوى الانتظار.