علي الإنسانية جمعاء
ما أعظمها من مصيبة.
ليلة مفجعة صاح فيها جبريل : «تهدمت والله أركان الهدى وانفصمت العروة الوثقى» معلناً ليلة حرمان وحزن وألم، علي بن أبي طالب الآية العظمى، النبأ العظيم، ممن اشتاقت له السموات واشتاق له الملائكة المقربين.
إمام المتقين وسيد الوصيين، علي الإنسانية ما أعظمها من إنسانية تؤكدها مسيرة حياته كافل الفقراء والمساكين والأيتام والأرامل، وفي وقت مصابه وأشد ألمه واستشهاده واحدة من وصاياه وهو في لقاء ربه سبحانه وتعالى:
رواية جاءت عن قاتله،
فقال الإمام الحسن لأمير المؤمنين : هذا عدو الله ورسوله وعدوك، ابن ملجم أشقى الأشقياء، قد أمكننا الله عز وجل منه وقد حضرناه بين يديك، ففتح أمير المؤمنين عينه ونظر إليه وهو مكتوف وسيفه معلق في عنقه، فقال له بضعف صوت ورأفة ورحمة: يا هذا لقد ارتكبت أمرا عظيما، وخطبا جسيما، أليس بئس الإمام كنت لك حتى جازيتني بهذا الجزاء؟ ألم أكن شفيقاً عليك وآثرتك على غيرك وأحسنت إليك وزدت في عطائك؟ ألم أكن يقال لي فيك كذا وكذا، فخليت لك السبيل ومنحتك عطائي؟ وقد كنت أعلم أنك قاتلي لا محالة، ولكن رجوت بذلك الاستظهار من الله تعالى عليك، فغلبت عليك الشقاوة فقتلتني يا شقي الأشقياء؟ فدمعت عينا ابن ملجم وقال: يا أمير المؤمنين أفأنت تنقذ من في النار؟!
ثم التفت إلى ولده الحسن وقال له: ارفق يا ولدي بأسيرك، وارحمه وأحسن إليه وأشفق عليه، ألا ترى إلى عينيه قد طارتا في أم رأسه وقلبه يرتجف خوفا وفزعا؟
فقال له الإمام الحسن : يا أبه قد قتلك هذا!!! وأفجعنا فيك وأنت تأمرنا بالرفق به؟
فقال: نعم يا بني نحن أهل بيت لا نزداد على المذنب إلينا إلا كرما وعفوا، والرحمة والشفقة من شيمتنا، بحقي عليك فأطعمه يا بني مما تأكله واسقه مما تشرب، ولا تقيد له قدما ولا تغل له يدا، فإن أنا مت فاقتص منه بأن تقتله وتضربه ضربة واحدة وإن أنا عشت فأنا أولى به بالعفو عنه وأنا أعلم بما أفعل به. ثم أمر أن يحملوه من ذلك المحراب إلى موضع مصلاه في منزله.
قال محمد بن الحنفية: فحملناه والناس حوله وهم في أمر عظيم، باكون محزونون قد أشرفوا على الهلاك من شدة البكاء والنحيب، وكان الحسين يبكي ويقول: وا أبتاه من لنا بعدك ولا يوم كيومك إلا يوم رسول الله ﷺ وكأني بزينب لما نظرت إلى أمير المؤمنين وهو محمول على الأكتاف نادت: وا أبتاه وا علياه.
قال محمد بن الحنفية: لما طرحناه على فراشه أقبلت أم كلثوم وزينب وهما يندبانه ويقولان: من للصغير حتى يكبر، ومن للكبير بين الملأ، يا أبتاه حزننا عليك طويل وعبرتنا لا تبرح ولا ترقى.
قال: فضج الناس من وراء الحجرة بالبكاء والنحيب، وفاضت دموع أمير المؤمنين على خديه وهو يقلّب طرفه وينظر إلى أهل بيته.
اجتمع الأطباء والجراحون فوصفوا للإمام اللبن، لأن سيف ابن ملجم كان مسموماً، فكان اللبن طعامه وشرابه، ودعى الإمام بولديه الحسن والحسين وجعل يقبلهما ويحضنهما لأنه علم أنه سيفارقهما وكان يغمى عليه ساعة بعد ساعة، فناوله الحسن قدحا من اللبن فشرب منه قليلا، ثم نحاه عن فمه وقال: احملوه إلى أسيركم! ثم قال للحسن: يا بني بحقي عليك إلا ما طيّبتم مطعمه ومشربه وارفقوا به وتطعمه مما تأكل، وتسقيه مما تشرب حتى تكون أكرم منه!!
وكان اللعين ابن ملجم محبوسا في بيت، فحملوا إليه اللبن وأخبروه بعطف الإمام وحنانه على قاتله فشرب اللبن.
هذا هو علياً هذا هو الإمام أبو الحسن والحسين هذا هو حامي الدين والرسول ﷺ هذا علي
وليد الكعبة المشرفة، وهو من ترعرع في بيت الوحي والنبوة وتربى في مدرسة الإسلام والرسالة، هذا علي زوج البتول ، هذا علي : في حديث المَنْزِلَة - قول رسول الله «صلَّى الله عليه وآله» لعلي بن أبي طالب «عليه السَّلام»: ”أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي“ وقد أدلى رسول الله ﷺ يوم المؤاخاة.
عليّ ولي الله وحجته، الحاكم العادل، قائد الغرّ المُحجّلين علي الإنسانية جمعاء، إنسانا تمثلت فيه كل معاني الإنسانية .
وهذه أبيات للشاعر حسين بن مُلًا حسن آل جامع بعنوان:
فاجِعةُ المِحراب 2
مُسَجًّى على سَبيلِ فِراق..
أبكَى الصلاةَ ورَوَّعَ المِحرابا
سَيفٌ بِهامِكَ قد طَغَى فَأصابا
فَغَدَوتَ مُنجَدِلًا تُخَضِّبُكَ الدِما
والعَرشُ يَندِبُ عِترةً وكِتابا
للهِ فَرضُكَ.. ما رَوَيتَ أوامَهَُ
فَهَوَى عليكَ يُرَدِّدُ التِنحابا
أفديكَ مَحمُولًا وجُرحٌكَ نازِفُ
والمَوتُ يُلبِسُكَ الضَنى جِلبابا
وعلى فِراشِكَ.. والجَبِينُ مُعصَّبٌ
وبَنوكَ تَعقِدُ نُدبةً ومُصابا من ذا أشِدُّ على جَمالِكَ صُفرةً
والمَوتُ يَأزِفُ غُدوَةً وإيابا
وبِقربِكَ السِبطانِ مَضَّهُما الأسَى
ورَمَى على رُوحَيهِما جِلبابا
وبِقلبِ زَينبَ ألفُ حُزنٍ مُكمَدٍ
كالجَمرِ يُشعِلُ رُوحَها تِلهابا
وبِكَفِّ عَبّاسٍ عَقدتَ ”كَفالةً“
حَتَّى تُفَضَّ بِكربلاءَ كِتابا
هَذِي لَعَمرُكَ من أبيكَ وديعةٌ
في يَومِ تَبتَدِرُ الخُطُوبُ غِضابا
يا أيُّها النَبَأُ العظيمُ ومَن بهِ
تُرجَى الشفاعةُ مَوقِفًا وحِسابا
وبِذي فَقارِكَ قامَ دِينُ مُحمّدٍ
ولَكَم دعاهُ مُدَجَّجٌ.. فأجابا
يا مَن رَددتَ الشمسَ بعد أُفُولِها
وأمطتَ عن عَنتِ العُقولِ حِجابا
هَذي صِفاتُكَ يا عليّّ مَناقِبٌ
تأباكَ إلّا أن تَكونَ مُهابا
مَولايَ حُزنُكَ مَضَّ كُلَّ مُوَحِّدٍ
وعَليكَ مَفرِقُ مَن أحبَّك شابا
وغدَتْ ليالي القدرِ.. وهيْ مَشارقٌ
تشتاقُ نُورَكَ حينَ بدرُكَ غابا
مَولاي.. خُذنا لِلغرِيِّ مَواكِبًا
حتّى نَعيشَكَ مَشهدًا ورِحابا
ونُريقُ في الأعتابِ أدمُعَ لَوعةٍ
ونَذوبُ فِيكَ مَآتِمًا ومُصابا