شهر التوبة 15
معرفة حرمة شهر رمضان المبارك تنعكس بوضوخ، في التعاطي بوعي مع هذه الفريضة الكبرى، فالصائم الذي يتحرك وفق ضوابط وسلوكيات محددة، يحصل على الكثير من الفوائد طيلة شهر رمضان المبارك، خصوصا والحصيلة النهائية من الامتناع عن الطعام والشراب تختلف من صائم لآخر، انطلاقا من المفاهيم التي ينطلق منها كل صائم، فيما يتعلق بطبيعة التعاطي مع الصيام، الأمر الذي يتجلى في مجموعة السلوكيات الخارجية.
الالتزام بالمحاذير المنصوص عليها أثناء الصيام، لا تستهدف تقييد حركة وحرية الصائم، بقدر ما تستهدف إشاعة القيم الأخلاقية، وتكريس المفاهيم الفاضلة في النفوس، خصوصا وان تكريس تلك المحظورات على الإطار الجماعية، يشكل مرتكزا في عملية الارتقاء بالبيئة الاجتماعية، لا سيما وان المحاذير لا تقتصر على الممارسات الشخصية، ولكنها تشمل السلوكيات الخارجية، من خلال ضبط إلاقوال والأفعال تجاه الآخر، الأمر الذي يساعد في اقتلاع العديد من الممارسات الخاطئة.
وشهر رمضان دورة عملية للقدرة على ضبط الأعصاب، وعدم التعدي على الآخرين، وتنمية القدرة على امتصاص مختلف أنواع الاستفزازات، لاسيما وان الصائم مطالب بإظهار الوجه الجميل من الالتزام بهذه الفريضة، عبر وضع السلوك الحسن في مقدمة الممارسات الحياتية، وبالتالي الحرص على توظيف ساعات الصيام بطريقة إيجابية، واتخاذ القرارات الصارمة لإحداث تغييرات حقيقية، على المستوى الأخلاقي، فالصوم ينمي الإرادة ويساعد في اتخاذ القرارات الصعبة، سواء على الصعيد الذاتي أو الاجتماعي.
الالتزام بالحدود المسموحة، وعدم تجاوز الخطوط الحمراء فيما يتعلق بالمحرمات والحرمات، إحدى الثمار الكثيرة لفريضة الصيام، فالشهر الكريم قادر على إزاحة العديد من الممارسات الشاذة، من السلوكيات الخارجية، فالخشية من ”خدش“ الصيام تفرض الصائم التحرك وفق ضوابط صارمة، انطلاقا من المفاهيم السائدة من ضرورة تجاوز الفهم السطحي لفريضة الصيام، بحيث لا تقتصر على تجنب الأكل والشرب، ولكنها تشمل جميع السلوكيات الخاطئة، سواء على الصعيد الشخصي، أو الأسري، أو الاجتماعي.
القدرة على الالتزام بالسلوكيات الحسنة لمدة 30 يوما، دلالة على امتلاك الصائم جميع الأدوات المطلوبة، لمواصلة المشوار على ذات المنوال، بيد أن الإصرار على الالتزام بالأخلاقيات الحسنة، تتطلب الكثير من الإرادة والقدرة على مقاومة، مختلف أنواع الاستفزازات في الممارسات الحياتية، خصوصا وان الاحتكاك الخارجي مع البيئة الاجتماعية يفرض انتهاج بعض السلوكيات، نتيجة التعرض للمواقف الاستفزازية، الأمر الذي يشكل امتحانا حقيقيا، في القدرة على امتصاص ردات الفعل العنيفة، وبالتالي فإن الدورة الرمضانية السنوية فرصة حقيقية، لتحريك الجانب الإيجابي في النفوس، وقمع الجوانب السلبية، وقطع العلاقة بشكل نهائي مع السلوكيات الخاطئة.
يبقى مستوى الفهم لمضامين شهر رمضان المبارك، ووجود القابلية للاستفادة من الشهر الكريم، أحد الفوارق الأساسية في القدرة على إحداث التغييرات، في السلوكيات الأخلاقية لدى الصائم، فهناك الكثير يفشلون في الامتحان العملي منذ اليوم الأول، من خلال الدخول في مشاكسات، ومناوشات مع القريب والبعيد، فيما يحصل البعض الآخر على العلامة الكاملة طيلة شهر رمضان المبارك، من خلال الاستفادة العظمى من فريضة الصيام بالطريقة المثالية، بحيث تظهر في الاختلاف الكبير في السلوك الخارجي.
وكان من دعاء الإمام علي بن الحسين السجاد زين العابدين - - إذا دخل شهر رمضان
شهر رمضان: شهر الصيام، وشهر الإسلام، وشهر الطهور، وشهر التمحيص، وشهر القيام، الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس، وبينات من الهدى والفرقان.
فأبان فضيلته: على سائر الشهور، بما جعل له من الحرمات الموفورة، والفضائل المشهورة، فحرم فيه ما أحل في غيره إعظاما، وحجر فيه المطاعم والمشارب إكراما، وجعل له وقتا بينا لا يجيز جل وعز أن يقدم قبله، ولا يقبل أن يؤخر عنه.
ثم فضل ليلة واحدة: من لياليه، على ليالي ألف شهر، وسماها ليلة القدر، تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر، سلام دائم البركة إلى طلوع الفجر، على من يشاء من عباده بما أحكم من قضائه.
اللهم: صل على محمد وآله، وألهمنا معرفة فضله، وإجلال حرمته، والتحفظ مما حظرت فيه، وأعنا على صيامه بكف الجوارح عن معاصيك، واستعمالها فيه بما يرضيك، حتى لا نصغي بأسماعنا إلى لغو، ولا نسرع بأبصارنا إلى لهو، وحتى لا نبسط أيدينا إلى محظور، ولا نخطو بأقدامنا إلى محجور، وحتى لا تعي بطوننا إلا ما أحللت، ولا تنطق ألسنتنا إلا بما مثلت، ولا نتكلف إلا ما يدني من ثوابك، ولا نتعاطى إلا الذي يقي من عقابك.