الحُبُّ.. طلعة جهيرة، وحصانة سيرة.. حَدٌَث وحَدِيْثٌ ”41“
لَنْ أتحدّثَ هُنا، عَن طَائفةٍ مِن حَاشِيةِ المَلأِ الكرِيم المُصطَف، مِن حَولِي عَلانِيةً، في مُجمَلِ طَيّ سَكّ سُطُور تَوطِئةٍ عَابرَة سَائرَة، لِجَمّ نَظْم خَاطرتِي البِكر، بسَرِيرَةٍ جَمُوحٍ، وجَهيرَةٍ طَمُوحٍ - مَزدانتَين بتآلُف نَسقِ مُفرَداتِهما المُتجانِسَةِ انسِياقًا، بقَشِيب حُلّة التوَلُّه المُستَهام، في رَقِّ مُستهَلِّ مَنشُورٍ، ونَاصِيةِ مَتنِ مَخطُوطٍ وَردِيّيْن مُنضّدَين ”لصَفقةٍ“ مَاثِلةٍ حُبلَى مُتبادَلةٍ؛ بل عن حبكات واقعية، لمشاهد مِن قَصَصٍ غراميةٍ، فارِسَاهَا عَاشِقّان مُتحابّان، بحَضرَة جُمْعةِ الاحتِفاء الساهِر المُتسامِر، بأَصْوبِ وَجِيع سَهمِ مَارِقٍ؛ سَلّتْه نَقضًا؛ وشَهرَته غَدرًا، رَميةِ الحُبّ الرومَانسِي النافِذ، الذي تَمَكّن - بمُستَتِر ومُضمَر - دَبِيبهِ الصامِتِ النابِتِ خِلسةً، في ثَنايَا الضّلُوع، مِن الزحفِ الحَثِيثِ، في عَتمةِ زُقاقِ فُسْحَة النّفُوذِ المُتخَفِّي؛ وفي فُرجَة فُرصَة العُبُور المُتسلّل، إلى باطِن دَواخِل، وسَرائِر حَبابِ سُويدَاءِ قُلوبِ العَاشِقين الوَالِهين، برَشِيق نَصلِه الأهيَفِ الصقِيل؛ وحَفِيفِ انطِلاقَةَ عُودِه المُرهَفِ الأَنِيق؛ تأْسِرهُما آصِرة صَبَابَةُ العِشقِ العُذْرِيِ المْتبادَلِ سَاعةً؛ وتَحرِسهُما، مُرورُ رَشَاقَةِ غَمائمِ الاشتِياقِ المُحدِق لَيلًا؛ وتَغطِّيهما، نَزلةُ هُيامِ الهَوَى المُتيّم نَهارًا؛ ويَظلّهما مَعًا، تَسنّمُ حَرّة الشّوق القائم سُهادُه، بقوِةِ إِكْسِيرِ نّبضِ فَورَةِ الحَرَاكِ المُتعَانِق لِزامًا، مَع هِمّة إتمَامِ تَمازُجِ قَوَام مَصلِه المُتجانِس انصِهارًا، والمُتماهِية جُلَّ جُزيئاتِها الحُرَّة الطلِيقة، وَسَط أَقطَابٍ مِن مَجالٍ ”كَهربِيٍ“ نَشِطٍ مُتجانِسٍ، في عُمق صَمِيمِ كِيمياءِ سَائرِ خَلايَا تَلافِيف أَدمِغَة العَاشِقَين، مَمزُوجَة إفرازاتُها الثائرة، بحُرْقَةِ أَنفاسِهم الساخِنة إظهَارًا…!
ولَعلّ نقاءَ الحُبّ القَلبي الصادِق، يَبدأ بالتصعّدِ اللّاهِثِ في مَراقِي ”فَسْلَجَة“ مَشاعِر الارتِياحِ التامِ المُستَقبِلة؛ لتُرسُل أدقّ مَجاسِ مُبرِقَاتِها المُرهَفة سِهامًا فَورِيةً نَوعَيةً - مُصَوّبةً مُسَدّدةً - إلى مَراكِز خَلايَا الدمَاغ؛ لتَتعرّف على صِبغَةِ شَفرتِها لَحظةً، عَن كَثبٍ، بلُبابِ قَوامِها الخَام، دُونَ كُلْفَةِ التدقِيقِ المُتاني؛ ومَشقّةِ التمحِيصِ المُتريِّث، في أَدَقّ جُزئيّات التفاصِيل المُستَتِرة الخَفِيّة، بحُسنِ قَبُولٍ ذَاتِي؛ وظَاهرِ أَريحِيةِ مُوافَقةٍ نِهائيةٍ مُستضَافَتين استِحسانُا… يَكفِي الشخصُ المُحِبُّ الوَالِهُ، ارتِياحًا وانشرَاحًا، أنّ سَهمَ الحبّ، لَا يَستأذِنه طَويلًا؛ لفُسحَة الدّخُول المُسهَّل المُيسَّر إلى مُنتهَى - مَطارِف وحَشَايا - سُويدَاء القلب، بمُباركةٍ ذَاتيةٍ مُستأْنَسةٍ؛ وقد أَبْرَمَتهَا، وأَجَازَت بُنودَها السمْحَة، بَوابات الدخُول الفَورِي، المُشْرَعة المُرحِّبة استِلطافًا، على رَحِيبِ جَانِب مَصارِيعها المتّسعة، قَلبًا وقَالبًا…!
وهُناكَ، في أَوسَاط جَانبِ حَلَبةِ الواقِعِ المُعَاشِ، يَسطعُ مِيلادُ حٌبٍّ صَادقٍ؛ ويَنتشِي مَحطُّ عِشقٍ نَاطقٍ،ٍ ويَستفَيقُ كِفاحُ أُنسٍ وَاثقٍ، تَتجلّى أَسرَار فائقِ أسمَى عَظمتِهم المُتناقَلة المُثلَى بِرمّتها؛ ويَنضَحُ شَملهُم بَصبابَةِ العِشقِ - الربّاني المُلهَم - بأنْمَى جَذبٍ آدمِي، بين لُطفِ تأخيذِ رَاحَتي قَلبَينِ نَابِضَينِ - مُتآلِفَينِ مُتوادّينِ - في جَوفِ استِقامَة جِسمِ شَخصٍ نَقيٍ طَاهرٍ وَاحدٍ؛ وفَي أحضَانِ تَلافِيفِ عَقلٍ نَيّرٍ مُدبّرٍ وَاحِدٍ، غَيرَ أنَّ أَحدَهُما نَبيٌّ مُرسَلٌ، والآخر مُحِبٌّ صَادِقٌ مُلهَمٌ، قد غَلبَه أَصَالةً، شَغَف قَلبه الحنُون؛ وتملّكتُه أَسرًا، فِطرة سَرَيرتِه العَطُوف؛ وسَبَقَه استِحوَاذًا حَثِيثُ مَيلِ استقامة وِجدانِه الفَطِن، إلى البحثِ المُجدّ المجتهِد، والانتقاء الواعي المُدرَك، لحُسنِ الحِسبَةِ المُستقصيةِ، لشَريكِ الحياةِ السعيدةِ، لَيَملأَ سِيرَة حَياته - بَركةً وسَعادةً - بعظِيمِ حُبه، ووَقارِ عِشقِه - أَركَان بيتِ ”النبوةِ“ الطاهِرة، في أرْجاءَ أم القرى، ومَا حَولهَا، بَعد أَنْ سَاد ظلامُها رَدَحًا طَويلًا… وقد غَدا الزوجان الحَلِيلَان قُدوةَ المُحِبّين، وقُرّةَ أَعيُن المُتحَابِين، في الله، فِعلًا مَلمُوسًا ومَسلَكًا مُتّبعًا؛ وقَد مَكّنهُما السعي الدّائِب المَواظِب؛ لنَشرِ دينِ الله، واحتِضان بَيضةِ الإِسلام، وإعلاءِ كَلمةِ الحقِّ، سُبحانَه وتَعالَى… وقَد جَسّدَا الزوجان الوَلِيفان، أكملَ أَوسِمةِ الشرَف؛ ووطّدَا أتمّ شَراكَةِ هِدايةٍ رَبّانيةٍ، مُهداةٍ للبشرية جَمعَاء… إنّهما: شخصَ نبيّ الله، الصّادَق الأَمِين، مُحمد بن عبدالله، وزوجَه الطاهِرة المُطهّرَة، خَديجة بنت خُويلد، عليهما، وعلى آلهما أفضل الصلاة وأتمّ التسليم…!
وفِي مَشهدٍ مُعَاشٍ آخر، تُرَى أَسْمَى؛ وتُقرَأ أنْمَى مَراتِب ومَناقِب صَفاءِ مَيلِ هَوى صِبغةِ الحُبِّ الآدمِي المُتجدّد، وأَنْقَى تَوقِ صَفوَةِ مَراقِي عَتَباتِ مَصَاعِد صَفاءِ العِشقِ النوعِي، المَنوطَين، فِطرةً وخِلقةً، بطَهارةِ شَغَافِ القلب العَطوف؛ والظافرين مَعًا، بقَداسَةِ الرّوحِ الرّوؤف؛ والمُتعلّقين لِزامًا، بدَيمُومةِ أَنبَل وأَمجَد طَيّاتَ نَسَائمِ هَوَى الحُبّ القلبِي المُستَهام صَبابَةً، والهَائم شَوقُه نجَابةً، والمُتيّم كَمالُه احتِسابًا، برِقّة الاشتِياقِ الثنَائي المُتبادَل، وقَد حَاكَت شَرارَةَ حَبكتِه الشائعة الذائعة زُليخَة، إمْرأَة العزِيز، وقد تَمدَّحَت، وتَباهَت، وتَفاخَرت بذلك الحُب الخالِص النقي، الذي غَمرَ قلبها، على مَلإِ حَاضِرٍ مِن بَناتِ جِنسِها؛ وأحَاطَت يُوسُف الصدّيق النبي، بما لَم تُحِطْ به أنثى… تَزهُو بجَمالِها الأَخّاذ؛ وتَتباهَى بفِتنتِها الساحِرة؛ وتتغزّل حِينًا، بفتَاهَا الوسيم؛ وقد شَغفَها وِدّ الفتى الضيفُ الأَلمَعِي، ذُو المَنطقِ الرزِين،َ وصاحِب العقلَ الذكِي الفطِين، حُبًا أَخّاذًا، ووِجَذبًا لَافِتًا، لَا يُقاوَمَان؛ ولَم تَر صَرِيعتُه المُتيّمَة مِثلَه، في شَخصِ مَعشُوقُها سَاعةً قطّ، في قَسامتِة، ووَسامتِة، وحِلمه، ومَنطقِه… إلَّا في عَالم الرؤيا؛ ومِثله رَسمًا، في زِحَام هَواجِسِ الخَيال...!
ويَمرّ زحفُ العُصُور المُتصرّمة الأُولَى؛ وتَتوالَى أمثالُها مِن القَرون الحُبلى؛ لتَكشِف عَن حَقيقةِ حُبٍ عُذري مُؤلِم، شَاعَ وذَاعَ ذِكرُه رَدَحًا، في صَدرِ الإسلام، في نَجد؛ ليكشف عَن فارسي صَبابَة العِشق المُقنّع المُهَيّم: قيس بن المُلَوَّح العَامِري، وابنة عَمّه، لَيلَى العامِرية… وقد انطلقت بَاكَورةُ شَرارَة حَبّهما العُذري النظِيف، مُنذ الطفولة، عِندمَا كَانَا يَرعَيان الغَنم، في أطرافِ البادِية، إِلى أَنْ شبّا الإثنان، واحْتَجِب لِقاؤهما المُعتاد، حَسبَ التّقالِيد القَبَلِيةِ المُحَافِظةِ؛ عِندئذٍ انفطَر قَلبُ المُتيّم الوَلهَان، الشاعِر ”قيس“ حُرنًا وأَسَىً؛ فهام على وَجهِه، مُنتقّلًا بين البَرارِي والقِفَار، يُنْظِم قَصائدَ حُرْقة الشعرِ الغَزلي العُذري، ويَذرّه - بزَفيرِ أَنينِه - في أدراج الرياح... حَسبُه بيتٌ شَجيٌ واحِدٌ مِنه، يَصلُ إلى عُضَيمَاتِ مَسامِع مَحبُوبتِه ليلى؛ بَعدمَا لَم يُحالِفه الحَظ، بالزواجِ مِنها، والظفَرِ الجُنونِي الوالِه، بأصَالةِ حُبها النّد المُتَبادَل… بَعدمَا أحكَمَت شَكائِم العِشقِ المُتمَكّنِ مِن قَبضتِه الخَانِقةِ؛ ليتَحوّل ظاهِر العشق المُستحوِذ إلى مَرحلةٍ مُتقدّمةٍ مِن ”الكَلَفِ والتّيمِ“ الذي لَا تُقاوَم هَجمتُهما الشرِسَة؛ ولَا تُصَدّ نَزلتُهما التعِسَة، جُملَة وتَفصِيلًا… وقد انتهَى الأمر، بواقِعِه المَرِير المُوجِع، بزِواجِ المَعشوقة ”ليلى“ القَسرِي، مِن شَابٍ تقدّم عرضًا، لخُطبتِها... وقد مَاتا العاشِقان: الحَسناءُ الجميلةُ ”ليلى“ وفي دَخِيلةِ نفسَها حَسْرةٌ وكآبةٌ، وقد أّنْسَتها مُتعةُ حُلو الحياةِ؛ ومَعشُوقُها - الهَائم في حُبّها الجُنونِي المُتفاقِم ”قيس“ الذي لَم يَذُق طَعمَ الراحةِ والجَمَامِ... غَير زَفراتٍ وعَبراتِ خَانِقةٍ مِن الأَلَم النفسِي، وأَزِمةِ الكَلَفِ الوِجداني الهَيُوم المُستَحوِذ، التي خَامرَت بقَسوةِ حُرقتِها، لُباب عَقلِه؛ وأَوهَنت باجْتِرارِها زَفيرِها الضاغِط، مَحْض دَواخِل قِواه؛ وشوّهَت سَائر آمَالِه المَهِيضَة المُحطّمَة؛ وقد ترَك، مَحزُونًا مَكرُوبًا، رائع قصيدتة المُؤلِمةِ الشجِيةِ، والتي سَمّاها ”المُؤْنِسَة“ وقَد استهَلّها، بفَيضِ زَفَراتِ الأَسَى: «تَذَكّرْتُ لَيْلَى والسّنِينَ الخَوَالِيَا... وأَيّامَ لَا نَخْشَى عَلَى اللَّهْوِ نَاهِيَا» * وكَانَ اللهُ فِي عَونِ العَاشِقين...!