آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 10:22 م

حوار لا خوار

المهندس أمير الصالح *

يُقال بأن الحوار بين أفراد الأسرة الواحدة أصعب من حوار الأصدقاء والمتنافسين. لأن كل فرد من أفراد الأسرة رسم صورة ذهنية عن شخصية أخيه وأبيه وأمه وأخته، ولذا تراه يتجنب الحوار مسبقا في الأمور التي هو مقتنع بأن أخاه أو أباه أو أمه عندهم موقف مُسبق وجازم فيه. شخصيا أعول على نجاح الحوار بين الأطراف في الحي والمسجد ومكان العمل والوطن لبحث أي مشروع أو تبني أي عمل أو تكوين وجه نظر أو توطين علاقة من أي نوع أو معالجة لأي معضلة أو المساهمة في أي عمل خير أو تجاوز أي إخفاق أو مواجهة أي مخاطر بناء على الصدق والأمانة والسعي الحثيث لبلورة الهدف وتفعيل الحلول وتنفيذ العهود. وما يزيد يقيني وإيماني في ضرورة استخدام أداة الحوار لا سيما في محيط الفرد، هو مشاهداتي المتعددة لما آلت إليه الأمور من مآسي وتفتت قوة وتشتت آراء عند استخدام الجدال وشيطنة الآراء واقتراع الأسنة وانعدام بيئة الحوار الهادف وتنامي روح الأنانية وفرط حب البروز الإعلامي للأفراد «الرياء» والجري خلف صناعة الوجاهة «النفاق».

في بعض المجتمعات والشركات، الأغلب من الناس يتشدقون بأن بابهم مفتوح للحوار والاستماع للرأي الآخر. إلا أن الأغلب من الناس أيضا يقعون في فخ الخوار بدل الحوار. والخوار هو صوت تحدثه البقرة والأغنام للإيماء عن انغماسها في فعل ما كالشرب أو الأكل. وعادة يكون صوت الخوار أقرب إلى إحداث جلبة صوتية أو فقاعة صوتية بتعبير اليوم من البقرة لنفسها أي أنه حديث البقرة لنفسها فقط للفت الانتباه أو هكذا يتصور لي. ولذلك ترى مصاديق فشل مجتمعات الخوار ومحبي الخوار مختزل في الآية الكريمة الواضحة الدلالة والجلية المعان: ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَ قُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَبِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ سورة الحشر، آية 14. وعلى ضوء انتشار حوارات الخوار في قنوات فضائية متعددة ترى مشاريع وأعمال بر عديدة متعطلة أو مُعطلة بسبب اختفاء أو اضمحلال روح الحوار الهادف وطفوح روح الجدال والنزاعات الفردانية المتسلطة والاستبداد بالرأي الفردي والتشدق بالعناوين البراقة.

على صعيد العوائل والأسرة الواحدة، أضحى تحالف أدوات اللهو المتعددة والأجهزة الإلكترونية وتطبيقات السوشيال ميديا ورخاء العيش النسبي لبعض العوائل وانعدام الحوار الهادف وتشرذم التواصل وسوء استثمار النِعم تحالف شرير، عمل ويعمل على هدم وتفكيك الروابط الأسرية وانحسار روح الحوار الناجح بين أفراد الأسرة الواحدة.

نعم هناك من الناس من لديه روح ونفسية فرعون كما ورد في سورة غافر، آية 29، ﴿ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى‏ وَ ما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ. ويحمل ازدواجية معايير لأن واقع بعض من الناس هو ديكتاتوري متسلط وفي ذات الوقت تسمعه يتشدق ليل نهار بالآية الكريمة سورة الشورى، آية 38، ﴿وَ أَمْرُهُمْ شُورى‏ بَيْنَهُمْ. لسان حال البعض هداهم الله: قل ما تريد وسأفعل ما أريد!. ولذا نشاهد أن الحكيم من الناس في مواقف عدة يقول: أرجو ألا نناقش هذا الموضوع الآن حتى لا يتعكر المزاج! وهذا القول دليل على عدم وجود بيئة مناسبة للحوار المثمر.

في هذه العجالة سنركز على تأصيل ثقافة إطلاق الحوار داخل الأسرة لأهميته المتصاعدة ولسد الفجوة الآخذة في الاتساع في بعض الأسر بناء على تغير معطيات الزمان. وقد يسأل سائل: ما هي النقاط التي يجب توفرها لاستقراء الحوار المثمر داخل الأسرة الواحدة؟

حسب رؤيتي وبعض القراءات فإن الحوار المثمر في داخل الأسرة يتضمن الأمور الأساسية التالية:

1 - توفير بيئة الحوار الناضج، ويتضمن عدة محاور ومنها:

ا - بناء الثقة والأمان بين كل الأطراف

ب - الحوار بهدف إذكاء الروح النبيلة والقيم الطيبة ثم محاولة إيجاد الحلول الممكنة وتنفيذها

ج - اقتناص الوقت المناسب لطرح الحوار داخل أو خارج المنزل بشكل استباقي لتجنب مشكلة أو بشكل ردة فعل قبل الاستفحال

ت - حسن الإنصات والاهتمام بما يُقال أثناء الحوار

ث - تعطيل مؤقت لسلطة الأب على أبنائه والنزول مع الأبناء في الحديث كزميل لهم والتودد لهم

وأكتفي بهذا.

2 - فن إدارة الحوار وذلك يشمل:

ا - إثارة موضوع محل اهتمام الجميع ومحل فائدة مثمرة لهم ويجلب انتباههم

ب - تدوير وتوزيع المشاركة بشكل عادل في الوقت وتشمل الجميع صغيرهم وكبيرهم

ج - التأكيد على عدم رفع الصوت وتجنب مقاطعة المتحدث أو تشتيت انتباهه أو جر الحوار لمواضيع خارج المحور محل النقاش

ح - تحديد مدة الحوار وموضوعه ومدير جلسة الحوار والوقت الزمني المتاح لكل متحدث من البداية

خ - الحفاظ على اللباقة والأدب طوال فترة الحوار وبعده وقبله

د - منع أي جُمل تتضمن التهديد أو التحقير أو التهكم أو الاستخفاف بآراء أي من المشاركين في الحوار أو إصدار أحكام قطعية أو طرح أسئلة استجوابية

ذ - منع الشخصنة في الحوار وحجب أي تراشق لفظي في المهد ولو باللمز والتصدي لأي اتهامات سيئة بين أعضاء الحوار

ر - تدوير إدارة الحوار داخل المنزل في كل جلسة لإعطاء فرصة للأبناء لا سيما المراهقين لتعلم فنون إدارة الحوار وآدابه

مواضيع مقترحة للطرح في حوار هادف داخل الأسر وأشجع على طرحها في موسم رمضان الحالي:

1 - ما هي أفضل السبل لمنع تكرار خروج أحد الأبناء خارج المنزل إلى وقت متأخر

2 - طرق استزراع طرق الدراسة الصحيحة لتجاوز مشكلة انخفاض درجات أحد الأولاد في مادة الإنجليزي أو الرياضيات

3 - مع ملاحظة كثرة نسيان الأب في جلب حاجات المنزل، بحث إمكانية تعزيز ذاكرته

4 - مع تصاعد وتيرة انغماس الأبناء في استخدام تطبيقات الأجهزة الإلكترونية الذكية. ما هي الهوايات والأنشطة البدنية التي يمكن تحفيز الأولاد على ممارستها لتجاوز التعلق التام بالعالم الافتراضي

5 - أفضل السبل في كيفية تكليف الأبناء على أداء بعض الواجبات المنزلية

6 - مع تصاعد درجات التضخم في الأسعار، مناقشة أفضل طرق تحسين استخدام المتوفر من الأجهزة لإطالة عمر الأجهزة والمحافظة عليها

7 - حفظ الطعام من الإيمان والإسراف من أعمال الشيطان. ما هو دور كل فرد داخل الأسرة لمنع إهدار الطعام

رمضان كله بركة ومن أعظم بركاته توفر أوقات أكثر يستطيع المرء أن يصرفها مع أفراد الأسرة. ومن الجميل اقتناص الفرص بتفعيل الحوارات الهادفة داخل الأسرة الواحدة وجعل المنزل حاضنة ومسرعة حوار ثقافي راقي وأدبي رصين وعلمي هادف وتربوي جميل واقتصادي ناضج. فالبيت الناجح يسهم في بناء وصقل أفراده. فتكون الأسرة حينذاك لبنة بناء صالحة وفاعلة داخل مبنى المجتمع.