الحُب الخاطئ
من مكارم أخلاق زين العابدين ”أللَّهُمَّ وَأَبْدِلْنِي مِنْ خِذْلانِ الاَقْرَبِينَ النُّصْرَةَ، وَمِنْ حُبِّ الْمُدَارِينَ تَصْحيحَ الْمِقَةِ، وَمِنْ رَدِّ الْمُلاَبِسِينَ كَرَمَ الْعِشْرَةِ“
الْمِقَةِ في اللغة العربية تعني المحبة - ويقول العرب - وَمَقَ البِنْتَ: أي أَحَبَّهَا، والإمام بهذا المقام يسأل الله بأسلوبٍ بليغٍ بديع ”تصحيح“ حُب من يهتم لشأننا ومن نهتم نحن لشأنهم، فيا تٌرى ما هو الفرق بين الحُب الصحيح والحُب غير الصحيح؟
على ما يبدو أن هنالك أشكال كثيرة ومتعددة للحب غير الصحيح ولعلي هنا أتطرق لأحدها والذي أرى أنه من الأهمية بمكان الالتفات له - حُب الأبوين لأبنائهم - في زمنٍ ليس بالبعيد وعلى عهد آبائنا حين كانت الحياة عسيرة ومصادر توفر الماء والغذاء صعبة وتحتاج لمجهود بدني كبير كان الأبناء يبدأون العمل وتحمل المسؤولية منذ سنٍ صغير جداً قد لا يتجاوز الخامسة عشر تراهم قد تزوجوا وبدأوا ببناء أسرة وإعالة مجموعة من البشر، والبنت ربما تتزوج وتُنجب وتصبح قائمة على بيتها وتربية أبنائها والمساعدة في إعالة العائلة وهي لم تتجاوز الثانية عشر. وهذا هو ديدن بنو عمومتنا لغاية اليوم حيث نجحت الحيوانات والطيور الكاسرة في تربية أبنائها كما كُنا نصنع، فانظر كيف تهيئ أبناءها لمواجهة الحياة وتزج بهم في مخاطر الحياة منذ نعومة أظفارها وتحملهم مسؤولية شؤونهم.
مع الطفرة الاقتصادية للبترول أصبحنا شيئاً فشيئاً نزداد بطراً وبدأت أمور الحياة تزداد يسراً وسهولة، وفي رغدٍ من العيش أصبحنا نحمي أبناءنا ونخاف عليهم من النسمة الهواء ونسعى جاهدين بأن لا تمر عليهم أيام الجهد والتعب التي عايشناها، بل وأصبحنا نفرط في دلالهم وتوفير جميع وسائل الراحة وسبل العيش دون أدنى جهدٍ منهم، أصبحنا نصاب بالهلع ونقيم الدنيا لمجرد لسعة ناموس أو فقدان الشهية للأكل - والنتيجة ماذا؟ - النتيجة بأن أصدق ما يمكن أن يُطلق على وضعنا هو ”أن من الحب ما قتل“ حيث نَشَأَ لدينا شريحة من الشباب ”البعض“ ذو ثقافةٍ ضحلة لا يمتلكون أي تجربة أو مهارة لمجابهة شؤون حياتهم الخاصة، تعودوا الاتكالية فلم يصبحوا قادرين على تحمل المسؤولية، يقعون دائماً موقع المساكين الذين ظلمتهم الحياة والمجتمع من حولهم.
احترفنا من الترف بمكان ممارسة القلق معهم بتوافه شؤونهم، كمية كبيرة من أنواع الأطعمة لا تروق لهم، وبشرتهم الناعمة لا تتواءم إلا مع علامات تجارية منتقاة بعناية، ارتفاع أو انخفاض مكيف الهواء درجة واحدة يقض منامهم، تعودت أجسامهم أنواع الأدوية والمضادات حتى أصبحت مقاومتهم للأمراض هشة، وأصغر كلمة تنمر أو سخرية تحملهم لمقاعد الأخصائي النفسي.
بعد الحمد والشكر على ما أنعم الباري علينا، ليتنا أفرطنا في أمانهم لزيادة استقلاليتهم، وليتنا استثمرنا أوقت الراحة الطويلة في زيادة تعليمهم وتوسيع مداركهم، وليتنا أهديناهم خوض تجارب جديدة تثري خبرتهم، وليتنا أطعمناهم استشعار النعم والامتنان لها، وليتنا وفرنا كل ما من شأنه إكسابهم الابتكار والإبداع وخلقنا منهم لَبِنةً تنهض بالمجتمع والأجيال التي تليهم.