آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 10:22 م

التّهجين اللُّغوي: محاولة فهم وإفهام

الدكتور أحمد فتح الله *

التَّهجين في معاجم اللغة

”تهجين“: كلمة عربيّة مألوفة ومعروفة، ولأني لا أسعى إلى تأصيل أو تأثيل لها في هذه المقالة لتأسيس أرضيّة مفاهيميّة معينة، سأكتفي بمعجم واحد لتعريفها معجميًّا «لُغويًّا» كمدخل للمعنى الاصطلاحي في علم اللغة، وتحديدًا علم اللُّغة الاجتماعي. جاء في ”معجم المعاني الجامع“:

”تهجين“: «اسم» مصدر هجَّنَ «فعل» هجَّنَ يهجِّن، تهجينًا، فهو مُهجِّن، والمفعول مُهجَّن.

هجَّن النِّتاجَ: جعله هجينًا؛ أي ما ينتج عن تزاوج نوعين أو سلالتين أو صنفين مختلفين ويكون مختلفًا عنهما.

شجر مُهجَّن: ذو أصول مُختلطة.

هجَّن اللُّغة: أدخل إليها مفردات وأفكارًا من لغة أو لغات أخرى.

هجَّن الأدبَ: خلط بين أنواع واتِّجاهات مختلفة، وهجَّن روايته الأخيرة: جمع فيها بين الأسلوب الروائي والشعري.

هجَّن النظام الاقتصاديّ: مزج بين نظامين اقتصاديين، كالاشتراكيّ والرأسماليّ.

في علم الأحياء: التهجين «hybridization» هو تدخُّل بشريٌّ في إنتاج الحيوانات أو النّباتات؛ لضمان الحصول على الصفات المرغوب فيها لدى الأجيال القادمة، مزج السُّلالات.

التهجين اللغوي (Pidginization)

لُّغةً: هو إدخال مفرداتٍ أو عبارات في لغة ما من لغة أو لغات أخرى. واصطلاحًا: هو عمليّة تبسيط اللُّغة وتجريدها من كثير من قواعدها أثناء تعلمها من قبل مجموعات لغويّة خاضعة للُغة سائدة أو مجموعة حاكمة بلغة غير لغتهم.

يأتي التهجين أيضًا من أصحاب اللُّغة السائدة أنفسهم أثناء التواصل اللُّغوي مع غيرهم من أصحاب اللغات الأخرى حيث يكون إيصال المعنى المراد «الرسالة المقصودة» أهم من ضوابط اللُّغة الرسميّة وقواعدها في جميع مستوياتها مكوناتها «من صوت الكلمة ومبناها إلى قواعد الجملة ونحوها». وهذا السلوك «طبيعيًّا كان أو مصطنعًا» يتسق مع كون اللُّغة في الأصل أداة تواصل.

وهناك من اللُّغويين مَن يذهب إلى أن هذه العمليّة هي أساس تكون اللُّغات، بما فيها الإنجليزيّة والعربيّة[1] . على سبيل المثال، يذهب الدكتور كيس فريستيغ «عالم لغوي هولندي» في كتابه ”التهجين والكريوليّة: حالة اللُّغة العربية“ «Pidginization and Creolization: The Case of Arabic» إلى أنَّ عوامل اجتماعيّة وتاريخيّة دفعت غير العرب إلى تهجين العربيّة أثناء تعلمها بتبسيطها وتجريدها من كثير من قواعدها، وهذا التّهجين هو الذي أدّى إلى الفوارق الأساسيّة بين عربيّة الجاهليّة، التي، حسب زعمه، كانت شبيهة بفصحى القرآن [الكريم]، وبين اللَّهجات المحكيّة في الأمصار بعد ذلك. وقد قام البروفيسور فيرستيغ في عام 2003م بنشر تعديل في نظرته وذلك في مقال بعنوان (Pidginization and Creolization Revisted: The Case of Arabic) [2]  ذكر فيه الانتقادات التي وجهت لنظريته [3] .

التّهجين اللُّغوي والتّصوّرات الخاطئة

التّهجين اللُّغوي، إذًا هو ظاهرة طبيعيّة، وأحيانًا ضروريّة للتواصل البشري وتولّد اللُّغات واللّهجات، لكنَّ غير المختصين يأخذون منه موقفًا سلبيًّا ويعتبرونه خطرًا يجب الحذر منه ومحاربته أو مرضًا يجب مكافحته وحصاره كي لا ينتشر. في نظري، هذا الموقف ليس فقط بسبب غياب الجذور المعرفيّة عن الظاهرة، بل لأنّ اللُّغة العربيّة حاكمة هنا؛ حيث أنّ اللُّغة تحدد تعامل أصحابها مع الظواهر التي حولهم، بل وحتى قولبة تفكيرهم وتحديد نظرتهم للكون.

التَّهجين، في معاجم اللُّغة العربيّة، كما جاء في الفقرة الافتتاحيّة أعلاه، يأتي بمعنى الخلط، والجمع والمزج، وكذلك إدخال شيء في ما هو ”أصل“، لذلك يحمل ظلًا سلبيًّا في المعنى، خاصة أن ”المعجم العقلي“ لدينا «mental lexicon»، الذي هو نسخة ذهنيّة لما نعرفه من معجم اللُّغة العام «Language Dictionary»، فيه هجَّن الأمرَ: قبَّحه وعابه، ولا تُهَجِّن كلَّ جديد لم تعرفه من قبل. وتَهجِينُ الرَّجل: جَعْله هَجِينًا، أي لَئيمًا، تَهْجِين العمل: تَقْبِيحُه، تَعْيِيبه.

وهناك بعدٌ آخر في مسألة التّهجين اللُّغوي، وهو الموقف من الناتج «product» من هذه العمليّة «process». في تاريخ اللُّغات وعلم اللغة التاريخي، كما في علم الأحياء، ”الهجين“ لا يمثل دائمًا شكلًا وسطيًّا بين ”الأصلين“، ولكنَّه قد يحمل ميزة ”قوة الهجين“، فقد ينمو أحيانًا ليصبح أكبر منهما أو أطول. فليس كل دخيل فاسد، وكما لا يمكن إيقاف طبيعة الأشياء، ليس من الحكمة تضخيم ظاهرة التّهجين اللّغوي كمشكلة تهدد كياننا اللّغوي وفي ذات الوقت نقوم بتهميش ظواهر أخرى في أزمة العربيّة الراهنة وأسبابها.

وفي الختام، يخلط الكثير من النّاس بين التّهجين اللُّغوي، بالمعنى الاصطلاحي الذي بيناه، وأنواع من السّلوك اللُّغوي المشابهة، وهي في نظري ممارسات لم تصل إلى حد الشِّياع المقلق. من هذه الممارسات، ما يقوم به ثنائيو اللغة، الذين يجيدون لغتين «bilinguals» من دمج كلمات وتراكيب من لغة أخرى أثناء الحديث، كأن يستخدم العربيّ كلمات إنجليزيّة أو فرنسيّة. وهذه ممارسة، كما بين علماء اللغة الاجتماعيون، تحكمها عدة عوامل، لكنها لا تصل إلى حد وصمها ب ”التلوث اللُّغوي“، أو نوع لُغوي، كما يحلو للبعض تسميتها ب ”عربيزي“، «عربي - انجليزي» أو ”عربيسي“ «عربي - فرنسي». وللحديث بقيّة حول هذا الموضوع.

 

[1]  الاحتكاك اللّغوي والتواصل بين مجموعتين بشريتين لا تعرفان لغتيّ بعضهما البعض يؤدي إلى بروز لُغة هجينة «Pidgin» بسيطة جدًا ومحدودة لكنها قد تنمو وتصبح لُغة مولّدة، ”كريول“ «Creole»، أكثر تتطورًا واتساعًا وتأخد أهميّة اجتماعيّة حين تتعلمها الأجيال اللّاحقة ويستعملونها كلغة أُم «Mother/Native Language»، وقد تنمو هذه اللّغة وتبدأ في مرحلة التقعيد والكتابة «بعد تطوير أبجدية لها خاصة أو مقترضة» وتصبح لغة كاملة «Language»، لكنّ «التقعيد والكتابة» ليسا ضروريّان في تكوّن اللّغات أو بقائها؛ لأنهما من ”خارج اللغة“، لذا توجد لغات ليس لها أنظمة كتابة وظلّت في «مرحلة» الشّفهيّة، وهي الأصل في اللّغة كنظام صوتي تواصلي.

[2]  In: Approaches to Arabic Dialects. A Collection of Articles presented to Manfred Woidich on the Occasion of his Sixtieth Birthday. Series: Studies in Semitic Languages and Linguistics, Volume: 38. Martine Haak, Rudolf de Jong, and Kees Versteegh «eds.» pp. 343-357.

[3]  See for example, Al-Tarouti، Ahmed «1987» “Review of Versteegh`s Pidginization and Creolization: The Case of Arabic”. Jusur: The UCLA Journal of Middle Eastern Studies، Vol.3, pp.119-122.
تاروت - القطيف