دماغك يعمل سرًا مع أدمغة أخرى ليؤثر في مجريات حياتك
بقلم ليزا فيلدمان باريت
16 سبتمبر 2021
المترجم: عدنان أحمد الحاجي
المقالة رقم 73 لسنة 2023
Your Brain Secretly Works With Other Brains
Lisa Feldman Barrett
September 16,2021
نحن البشر كائن اجتماعي، نعيش في مجموعات، ونعتني ببعضنا البعض. جانب من كوننا كائنًا اجتماعيًا، كما تبين. هو أننا ننظم موازنة أجسام [1] بعضنا البعض الطبيعية. موازنة الجسم هي ما يقوم به الدماغ من حساب للموارد التي يحتاجها الجسم «مثل الماء والملح والجلوكوز وما إلى ذلك» التي يستهلكها أو يدخرها. فكل عمل يستهلك / يستنزف الموارد، مثل السباحة أو الجري، يعد بمثابة سحب من حساب الموارد هذا. النشاطات التي تجدد الموارد كالأكل والنوم، هي بمثابة ودائع في هذا الحساب. يحاول الدماغ أن يتنبأ باحتياجات المرء البيولوجية ويبادر إلى تلبيتها قبل أوان الحاجة إليها بغرض موازنة احتياجات الجسم الطبيعية [2] .
الناس الذين حول الشخص يؤثرون في موازنة جسمه وحتى يسببون تغييرات دائمة ومفيدة ومؤثرة عادة في الأداء العصبي للدماغ [3] . الدماغ يغير مسالكه العصبية بعد ممارسة تجارب جديدة [المترجم: هذا بفضل خاصية اللدونة العصبية neuroplasticity التي يتمتع بها الدماغ]. على سبيل المثال، الأجزاء المجهرية من الخلايا العصبية، والتي تسمى التغصنات [وهي تفرعات في الخلية العصبية تنقل الاشارات الكيميائية من خلية عصبية إلى أخرى [4] ]، تصبح كثيفة وتصبح الروابط العصبية المقترنة بها أكثر كفاءة. تتطلب هذه الوظيفة طاقة من مخزون الجسم، لذلك يحتاج الدماغ إلى سبب وجيه للإسراف في استهلاك هذه الطاقة. والسبب الرئيس هو أن الروابط العصبية تُستخدم بشكل متكرر ليتعامل المرء مع من حوله من الناس. شيئًا فشيئًا، يضبط الدماغ نفسه كلما تفاعل المرء مع آخرين.
أدمغتنا تعمل كجوقة راقصيين
مخزون الموارد المتبادل بين جسمين لها آثار قابلة للقياس. التغييرات في جسم أحد الأشخاص غالبًا ما تؤدي إلى حدوث تغييرات في جسم شخص آخر، سواء أكان بين هذين الشخصين علاقة حب، أو كانا مجرد صديقين، أو غريبين عن بعضهما تلاقيا لأول مرة. عندما تكون مع شخص تهتم بأمره، قد يتزامن تنفسكما وكذلك دقات قلبيكما، سواء أكنتما منخرطين في حوار عادي أو في جدال محتدم. هذا النوع من الترابط / التواصل الطبيعي يحدث بين الأطفال وأمهاتهم، وبين المعالجين ومرضاهم، وبين الذين يإخذون دروسًا في اليوغا أو يغنون في جوقة معًا. غالبًا ما نقلد حركات بعضنا بعض في رقصة صممتها أدمغتنا لا يدري بها أي منا.
نقوم أيضًا بتعديل مخزونات جسم بعضنا بعض بما نقوم به من أفعال وتصرفات. لو رفعت صوتك، أو حتى رفعت حاجبيك، فقد تؤثر فيما يجري داخل أجسام الآخرين، مثل معدل دقات القلب أو المواد الكيميائية التي تنقلها الدورة الدموية. إذا كان أحد أفراد أسرتك يعاني من ألم، فستتمكن من تخفيف ألمه بمجرد إمساكه بيده.
قد يبدو الأمر واضحًا في أن العلاقات المبنية على الحب مفيدة لنا، بل تثبت الدراسات [5] أن الفوائد تتجاوز ما قد يوحي به المنطق السليم. لو شعرت أنت وشريك حياتك أن علاقتكما حميمية وقائمة على العناية والاهتمام، وأنكما تستجيبان لاحتياجات بعضكما بعض، وأن الحياة تبدو سهلة وممتعة لكل منكما حين تكونان معًا، فمن غير المحتمل أن تصابا بأمراض. حتى لو أصبتما بالفعل بمرض خطير، كالسرطان أو أمراض القلب، فمن المحتمل أن تتعافيا منها. أجريت هذه الدراسات [6] على متزوجين، وتبين أن هذه النتائج لا تقتصر على الأزواج بل يمتد تأثيرها الإيجابي أيضًا حتى إلى علاقات الصداقة الوثيقة، بل حتى إلى مالكي / مربي الحيوانات الأليفة.
ومع ذلك، فإن طبيعتنا الاجتماعية لها أيضًا بعض السلبيات. نحن أيضًا نمرض ونموت في وقت أبكر - ربما أبكر بعدة سنوات من العمر المحتوم - فيما لو عشنا الوحدة المزمنة، بناءً على هذه المعطيات [7] . [المترجم: الموت قبل العمر المحتوم يُعرف بالعمر المخروم]. بدون مساعدة شخص آخر لنا في تنظيم موازنات أجسامنا، فسنتحمل عبئًا إضافيًا.
أفضل شيء لجهازك العصبي هو وجود إنسان آخر. أسوأ شيء لجهازك العصبي هو أيضًا وجود إنسان آخر.
من السلبيات المستغربة في موازنة الجسم المشتركة [بين شخصين] تأثيرها في التعاطف الوجداني. عندما يكون لديك تعاطف وجداني مع أشخاص تألفهم، فإن دماغك يتنبأ بكفاءة بما يمرون به من معاناة داخلية [8] [تحس وكأن ما أصابهم أصابك وتشاطرهم معاناتهم]. ولكن عندما لا يكون هؤلاء الناس ممن تألفهم [سواء أكان ذلك بسبب عرقي أم اثني أم غير ذلك]، فقد تجد التعاطف الوجداني معهم صعبًا. قد تضطر إلى معرفة المزيد عنهم، مما يعني المزيد من عمليات السحب من [استنزاف] موازنة جسمك، مما قد يجعلك تشعر بعدم الارتياح. قد يكون هذا أحد الأسباب التي تجعل الناس يخفقون أحيانًا في محاولة التعاطف الوجداني مع أولئك المختلفين عنهم أو مع من يؤمنون بأشياء تختلف عما يؤمنون به، ولماذا تبدو غير مريحة بالنسبة لهم عندما يحاولون التعاطف الوحداني معهم.
ان صح التعبير
نحن أيضا نؤثر في بعضنا البعض بالكلمات [9] . الكلمة الطيبة قد تطيب خاطرك، كما يحصل بعدما يثني عليك أحد أصدقائك في نهاية يوم عمل شاق. كلمة خبيثة من أحد المتنمرين قد يجعل دماغك يتنبأ بتهديد وشيك ويُغرق دورتك الدموية بالهرمونات، مما يؤدي إلى تبديد موارد ثمينة من موازنة جسمك. يمكنني الآن إرسال عبارة: ”أنا أحبك“ من الولايات المتحدة إلى أحد الأصدقاء المقربين في بلجيكا، وعلى الرغم من أنها لا تستطيع سماع صوتي أو رؤية وجهي، إلّا أنه بإمكاني تغيير معدل دقات قلبها ومعدل تنفسها وعملية أيضها. أو قد يرسل لك أحد الأشخاص رسالة غامضة تحمل عبارات، مثل، ”هل باب بيتك مغلق؟“ مما قد يؤثر في جهازك العصبي بنحو مزعج. قد لا تدوم هذه التأثيرات طويلاً، ولكن الدراسات بينت أنه يمكننا جميعًا بمجرد كلمات أن نؤثر بسرعة في الأداء العصبي لدماغ بعضنا البعض.
في المختبر الذي أجري فيه أبحاثي، على سبيل المثال، نطلب من المشاركين الاستلقاء بلا حركة في جهاز تصوير الدماغ والاستماع إلى أوصاف قصيرة لبعض الحالات، مثل هذه العبارات: أنت متجه بسيارتك إلى بيتك بعد أن سهرت الليل كله في إحدى الحانات تشرب المسكر. بدا الطريق إلى المنزل طويلًا جدًا وكأن لا نهاية له. نعست لحظة. بدأت السيارة بالانحراف. انتبهت فزعًا [هذه الحالة تُعرف بالنفضة النومية [10] ]. شعرت وكأنك فقدت السيطرة على مقود السيارة.
أثناء استماع المشاركين إلى هذه الكلمات، لاحظنا نشاطًا متزايدًا في مناطق أدمغتهم المعنية بالحركة رغم أنهم لا زالوا مستلقين في جهاز التصوير ساكنين بلا حركة. لاحظنا نشاطًا آخر في مناطق معنية بالرؤية، بالرغم من أن عيونهم كانت مغمضة. وإليك أروع مشهد: هناك أيضًا نشاط متزايد في منطقة الدماغ التي تتحكم في معدل دقات القلب والتنفس وعملية الأيض والجهاز المناعي والهرمونات وغيرها من الفضلات «البول والغائط»... كل ذلك يجري بسبب معالجتهم لمعاني كلمات العبارات التي استمعوا اليها!
لماذا للكلمات التي سمعتها كل هذه التأثيرات الواسعة النطاق في داخل جسمك؟ لأن العديد من مناطق الدماغ التي تعالج اللغة اجرائيًا تتحكم أيضًا في الأجزاء الداخلية لجسمك، بما فيها الأعضاء والأجهزة الرئيسة التي تدير موازنة جسمك. تعمل مناطق الدماغ هذه، الموجودة في ما يسميه الباحثون ”شبكة اللغة في الدماغ“، على التحكم في معدل دقات القلب. هذه المناطق تضبط مقدار الجلوكوز الذي يدخل الدورة الدموية لتزويد الخلايا بالطاقة. وتغير هذه المناطق الدماغية تدفق المواد الكيميائية التي تدعم جهاز المناعة. قوة الكلمات ليست قوة مجازية [اعتبارية]، بل قوة متأصلة في دماغك.
الاعتداء البدني قد يجرحني لكن الكلمات لا تؤثر فيّ
إلى أي مدى يمكن أن تصل هذه التأثيرات؟ على سبيل المثال، هل تضر الكلمات بصحتك؟ لو كانت بجرعات بسيطة، الجواب: لا ليس لها ضرر معتبر. عندما يقول أحد الأشخاص أشياء لا تعجبك أو تنال منك أو تعرِّض سلامتك البدنية للخطر، فقد تشعر بالاستياء لأن ميزانية جسمك تُستنزف في تلك اللحظة، ولكن ليس لها أي ضرر مادي على دماغك أو بدنك.
ولكن لو شعرت بالتوتر «الضغط النفسي» مرة بعد أخرى، دون أن يكون هناك أمل للتعافي من هذه التأثيرات، فقد تكون التبعات أكثر خطورة. لا يقتصر تأثير الضغط النفسي المزمن على أن يجعلك بائسًا في لحظته فحسب. بل قد تتضايق تدريجيًا من أي شيء يزيد من هذا الضغط النفسي المزمن ويسبب لك مرضًا في جسمك. وهذه الأشياء التي تفاقم الضغط النفسي تشمل العنف الجسدي [11] والاعتداء اللفظي والرفض الاجتماعي [12] والإهمال الشديد [13] ، ووسائل أخرى لا تعد ولا تحصى نختلقها نحن البشر لنعذب بها بعضنا البعض الآخر.
ببساطة، فترة طويلة من الضغط النفسي المزمن قد تضر بالدماغ. الدراسات العلمية واضحة تمامًا عندما يتعلق الأمر بهذه المسألة. عندما تكون انت الطرف المعتدى عليه اعتداءً لفظيًا مستدامًا، على سبيل المثال، فقد أثبتت الدراسات أنك معرض للإصابة بأمراض على الأرجح. هذه الدراسات في الاعتداء اللفظي أخضعت عددًا من الأشخاص العاديين من جميع الأطياف السياسية من اليسار واليمين والوسط. لو تعرضت للاهانة «للشتيمة» من بعض الناس، فإن كلماتهم لن تؤذي دماغك في المرة الأولى، أو في المرة الثانية أو حتى في المرة العشرين. ولكن لو تكرر هذا الاعتداء اللفظي بشكل مستدام على مدى شهور وشهور، أو لو عشت في بيئة تستنزف موازنة جسمك باستمرار وبلا هوادة، فإن الكلمات يمكن أن تجرح دماغك ماديًا. ليس لأنك ضعيف، ولكن لأنك إنسان. جهازك العصبي مرتبط ارتباطًا وثيقًا [يتأثر] بسلوك الآخرين وتصرفاتهم، أكان ذلك في سراء أم في ضراء.
عندما تتعاطف وجدانيًا مع بعض الناس المألوفين لك، فإن دماغك يتنبأ بما يعانون منه داخليًا [داخل أجسامهم]. ولكن عندما يكونون ممن لا تألفهم، فقد تجد صعوبة في التعاطف الوجداني معهم.
هذا الوضع يقودنا إلى معضلة جوهرية تتعلق بحال الإنسان. أفضل شيء لجهازك العصبي هو وجود إنسان آخر. وأسوأ شيء بالنسبة لجهازك العصبي هو أيضًا وجود إنسان آخر. كيف إذن يمكننا أن نحترم بعضنا بعضًا بشكل أفضل كأفراد «أفراد على خلاف مع بعضهم في كثير من الأحيان» حين نكون كائنات اجتماعيًة يتحكم الجهاز العصبي لبعضنا في الجهاز العصبي للبعض الآخر لنبقى على قيد الحياة؟ أعتقد أن الأمر يتعلق بهذه المسألة: الحرية دائمًا ما تأتي معها مسؤولية. نحن أحرار عندما يتعلق الأمر بما نقول ونفعل، لكننا مقيدون بتبعات ما نقوله وما نفعله. قد لا نهتم بهذه التبعات، أو قد لا نتفق على أن تلك التبعات لها ما يبررها، لكنها مع ذلك لها ضريبة علينا جميعًا أن نتحملها. الأمر متروك لكل منا ليختار أن يكون من النوع الذي يساهم في رفد موازنات أجسام الآخرين لا أن من النوع الذي يستنزفها.