آخر تحديث: 22 / 11 / 2024م - 1:35 ص

شيخة.. ذاكرة التحالفات والخصومات

أثير السادة *

مابين كتابة رواية شيخة للكاتب علي حسن أبوالسعود وطباعتها مسافة بطول 60 عاما تقريبا، كانت خلالها حبيسة الأدراج، والأفكار، وبعيدة عن رغبات التحقيق والتدقيق والنشر، إلى أن اختار الشاعر والمحقق السيد عدنان العوامي مراجعتها والدفع بها، بوصفها رواية تجمع ما بين النوايا الأدبية والتاريخية، حيث الحكاية الغرامية داخل النص السردي تمثل ذريعة فنية لتمرير مرافعات تاريخية عن أحداث عاصفة كانت تشهدها منطقة القطيف وماجاورها أواخر النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري.

تتقاسم بطولة الراوية التي كتبها الراحل أبوالسعود في بيروت شخصيات حقيقية وأخرى متخيلة، وكأن ضرورات السرد قد دفعته لاختراع شخصيات تهب النص امتداداته الدرامية، كما تسمح له بتشيد البناء القصصي كما يشاء، فسليمان بن مانع، البطل المطلق داخل النص، هو الباب الأوسع للعبور إلى عوالم النص وتفاصيله، فهو الحكيم والشجاع والعاشق، وقبل ذلك الشاهد على جملة التحولات العاصفة التي عرفتها مدن المنطقة وقراها في أتون الصراعات السياسية المحيطة.

سليمان يقع في حب شيخة على أطراف حمام أبولوزة، من هنا تبدأ حكاية النص، من لحظة اللقاء عند حمامات الاستحمام، وذاكرة الجواري والخدم، ومرض السل الذي خطف الشيخ ميثم القطان زوج شيخة، هناك سيصطدم بابن عمه حسين أبوحيان، الشخصية المتخيلة الأخرى داخل النص، الذي يطمع هو الآخر بالظفر بحب هذه الأرملة المسماة شيخة، وبمطامعه السياسية التي ستنشغل الراوية في الكشف عنها.

ستبدو سيرة الحب في هذه الراوية مجرد حيلة فنية لتمرير القصة الأساسية التي ينشغل بها أبوالسعود، وهي قضية الصراع ما بين زعامة سيهات وزعامة القطيف، والتحالفات التي نشأت عنها، والنزاعات التي تركت شرخا في شكل العلاقة بين البلدتين، وفيها الخصومة ما بين زعيم سيهات علي بن عبدالرحيم وزعيم القطيف عبدالله بن غانم، وما انتهت إليه من اغتيال لهذا الأخير، وذلك على خلفية تحالفه مع الأمير فيصل بن تركي، في مواجهة صاحب قلعة الدمام الذي كان حليفا لاهل سيهات.

هل غدر أهل سيهات بحاكم القطيف أم العكس؟.. سؤال نجد إجابته بنحو تقريري داخل الرواية، فهي تذهب إلى مناهضة الروايات الشائعة، بتقديم رؤية تؤكد على أن الذين قبضوا على عبدالله بن غانم أعطوه المأمن بناء على طلب الشيخ علي أبوالسعود، وأن مواجهة بالنار في الطريق إلى سيهات مع جماعات مسلحة أودى إلى مقتله.. يتكرر الدفاع عن موقف زعامة سيهات على لسان الراوي وهو يلمح بين وقت وآخر بأن الأسباب كانت سياسية، وأن أهل سيهات لم يبدؤوا بشر، كما يذكر بالعلاقة الجيدة لبطل الراوية مع إبن عبدالرحيم، في الوقت الذي تتسلل فكرة المؤامرات والمكايدات كواحدة من أسباب الصراع وتأجيجه في تلك الحقبة، والتي يقودها في هذه الراوية حسين ابن حيان.

شيخة في هذه الراوية مترددة، تعيش قلق الذاكرة، تخاف الارتباط بكائن جديد، ما يجعل من قصة حبها لسليمان شيئا يشبه انتظار جودو، وعد بالزواج لا يأتي، كلما اقترحت له موعدا أجلته الأحداث المتقلبة بالمنطقة، فسليمان باعتباره من أعيان القطيف محاصر بحصاراتها وتحالفاتها الكثيرة. شيخة هنا صورة من قلق القطيف وعدم استقرارها، وخوفها من المستقبل الذي لا تكاد التحالفات تقوى على ضمانه وصيانته، وهو ما يحاول الكاتب وصفه على لسان أم صالح، داية شيخة ومستودع أسرارها، وهي تعيب على ”كبارية البلد“ تبعيتهم وتناحرهم وركونهم للأغراب.

خوف شيخة من تبعيتها لرجل مرة أخرى بعد معاناتها مع الشيخ الكبير، هو ذاته خوف القطيف من تحولات الواقع، ومن الركون إلى ضفة واحدة، ليصبح المشهد منذورا لصور الاغتيالات وإعادة التحالفات، ويصبح الواقع السياسي فيها على النحو الذي تصفه أم صالح بالقول ”طارديين ناس وجايبيين ناس“.. القطيف مليئة بالرؤوس والأعيان في هذه الرواية لكنها أيضا مليئة بالمكايدات والتي يريد بها النص أن يفسر سبب ضعفها في مواجهة القوى السياسية في تلك الحقبة.

هي رواية لا تخلو من سبك أدبي إلا أنها تتغزل الرصد التاريخي وتنشغل به أكثر، بدت عليها صورة من الارتباك في التنويع بين الفصيح والعامي داخل النص، وبين لغة الشخصيات التي تتشابه أحيانا وتتنافر أحيان أخرى، إلا أنها تبقى وثيقة تاريخية مهمة، ونصا اجتماعيا كاشفا عن أوجه الصراع التي عرفتها المنطقة ومازالت..