التافهون والقدوة المفقودة
يسيطر على عقول أبنائنا وأفئدتهم عصبة من التافهين ممن يسمون أنفسهم يوتيوبرات وتيك توكرات وغير ذلك من المسميات التي تطلق على من ينتمي لبرامج السوشيل ميديا المختلفة، ولا أقصد بهم جميعهم، بل كل أولئك الذين يقدمون محتوى تافهًا سطحيًا مخلّاً بكل المعاني الرائعة في خلق الإنسان وسلوكه وأسلوب حديثه، فعنصر الجذب الذي يتقنه هؤلاء هو التفاهة بل قمة التفاهة، والتي تكون في أول الأمر مما تعود أبناؤنا مشاهدته عَرَضًا من باب الضحك والتسلية وما شاكل ذلك، ثم لا تلبث أن تتحولَ في قادم الأيام إلى واحدة من عاداتهم اليومية، وتكون مشاهدتهم لها مقصودة ومستهدفة، تلك التفاهة في حقيقتها الباطنة شَرَكٌ منصوب لأبنائنا، يتم اصطيادهم فيه تدريجياً بمحض إرادتهم ورغبتهم.
التفاهة إن أردنا أن نأطرها بتعريفها، فهي نقص في الأصالة أو الإبداع أو القيمة، وخلو من الأهمية والشأن. وبهذا التعريف الواضح نستطيع أن نقول إن كثيرًا مما نشاهده من محتوى ومواد تصدر عن أولئك التافهين هي تجسيد حي لمفهوم التفاهة، وإبراز واقعي لمضمونها.
إننا لو دققنا النظر وتأملنا في المحتوى الذي يقدمه التافهون بصورة يومية مكرورة، فسنلحظ نشازًا جليا في أقوالهم وأفعالهم وسلوكهم، مع افتقار واضح للقيمة العلمية والاجتماعية والثقافية، وتصحر حقيقي لأي فائدة أو ثمرة يمكن أن يجنيها أبناؤنا من هؤلاء، ومع ذلك كله فإن شهرتهم تكبر، وعدد متابعيهم يزداد يومًا بعد يوم، ونصيبهم من حديث الأبناء يتعاظم، ومع بالغ الأسف فإنهم قد وصلوا إلى حدود حمراء بل تجاوزوها، حيث أصبحوا قدوة لأبنائنا، ومَثَلاً يُحتذى به في سلوكهم وتصرفاتهم وحتى في طريقة كلامهم؛ وهذا بطبيعة الحال وبحسب المعطيات السابقة يؤدي إلى مآلات خطيرة ونتائج كارثية على أبنائنا، فأين نحن من كل ذلك؟!
شدة الأثر تعتمد على قوة المؤثر، فالوضع طردي هنا بامتياز، والتدمير في عقول الأبناء فرعوني، ينتج عنه اجتثاث تلك التربة الخصبة التي نزرع فيها القيم والمبادئ والمثل الجميلة في شخصيات أبنائنا، ليحل محلها تربة سبخة يصعب فيها الزرع.
إن من واجبنا كمؤسسات تربوية صغيرة وكبيرة أن نحارب هؤلاء ونعري فكرهم، ونقطع مجساتهم، وأن نجفف منابع الشر التي يبثونها في عقول الأبناء، وألا نقلل من حجم المشكلة، وأن نتضامن ونتكاتف لمواجهتهم، وأن نبدأ بخطوات فعلية وعملية لحل تلك المشكلة المتفاقمة، وأن نلجأ لذوي الخبرة والاختصاص؛ لفعل كل ما يلزم تجاه هؤلاء التافهين.
مجتمعنا يزخر بقدوات كثيرة غير معروفة لدى أبنائنا؛ لذا فإن علينا أن نظهرهم لهم ونعرفهم بهم، وأن نبين الصورة المشرقة لأولئك القدوات، فنعرض إنجازاتهم وإبداعاتهم وتجاربهم؛ حتى يدرك الأبناء أن هنالك في الضفة الأخرى مَنْ يجدر القيام بمتابعتهم والاقتداء بسلوكهم، ومحاكاة إنجازتهم، وتقليد تجاربهم.
إنْ فَهِمَ أبناؤنا أن قيمة المرء في الإنجازات الحقيقية التي تأتي بعد سنوات من الجد والدراسة والعمل واكتساب الخبرات من منبعها الأصيل، فإن ذلك كفيل بأن يحصنهم من تلك السموم التي يبثها هؤلاء الفئة من بني البشر.