الأمثال الشعبية والمغزى التربوي.. حدثٌ وحديثٌ ”39“
لَا يَكادُ يَخلُو سِجلّ مَتنِ ثَقافةٍ مُتجذّرةٍ مُتحضّرةٍ، مِن امتِلاكِ مَكنوناتِ أَسفاطٍ حُبلَى مِن رَيعِ جَاذِبٍ مِن مَورُوثَاتٍ جَمّةٍ؛ واقتِناءِ نِتاجٍ زّاخرٍ مِن مَحفوظاتٍ شَعبِيّةٍ؛ وجَني وَرِقِ أرصِدَةٍ مُتداولةٍ، مِن مَخزونِ سَلّة الأَمثالِ الشعبيةِ المُربّيةِ المُمتِعةِ؛ والتي ظَهرَ شَأْوُها شَاخِصًا، وتَبلورَ شأنُها مَاثِلًا، في ناصِيةِ طَيّ ”ألبومٍ“ عَامرٍ حَافلٍ، بشَتّى المَشاهد اليوميةِ؛ ورَاحَ يزهُو مُمتلِئًا بحَصيلةِ زَخمِ لَفيفٍ مُماثلٍ، مِن مُختلفِ طَبيعةِ دَيدَنِ صِدقِ المَواقفِ الندِية؛ وبَاتَ يَشدُو بنَزاهةِ صُدُوع المُكاشَفاتِ الترِب التصحِيحِية؛ ويَختالُ وَاثقًا بجَلِيّ نزعة أمَانة التفاهُم ”البينشَخصِيةِ“ الصريحة؛ ويُؤطّر عُمقِ نُظُمِ تَناول، وتَداول المُعامَلاتِ الجَماعيةِ الحَيويةِ، بين عَامةِ جُمعة الناس، على مَرّ العُصور، وسَالِف الدهُور؛ وهِي - في أَصْلِ نَهجِ دِيباجتها البسيطة - بمَثابةِ لَسعِ اللسانِ الذّرِب الناطِق؛ وحِكمةِ العقلِ المُتيقّظِ الواعِظِ، وخُلاصَةِ الدرسِ التربوي الناصِحِ….! ولأَنَّ مُخرجَات فَيضِ المَشاعِرِ الإنسانيةِ الذاتيةِ، ومِثلها ريعِ مُعطَياتِ أطيافِ نَسجِ ونَهجِ الأَحاسِيس؛ ونبض نزعةِ تحريك وإثارة ساكن المشاعرِ الوِجدانيةِ؛ وخلاصة نَاتِجِ أنقى صَحوَة شَواهِد وشوارِد المَرئياتِ الفِكريةِ، تكادُ تَتشابهُ مَظهرًا؛ وتَتماثلُ حِينًا - حِسًا ومَعنىً - في ذَائقةِ طَبيعةِ بِنيةِ الفِكر البشري الوَاحِد المُتألّق؛ فَلا غّرَابة، ولا عَجَب إذَنْ، أن تُصاغَ وتُذاعَ دِيباجَة مَقُولَة المَثلِ السائد، بدقةٍ وأناةٍ رَائقتَين؛ لِيعبّر فَحواهُ القائم عَن عَميق أثرِه البعِيد النافذ مَجازًا، بسَلاسَة طلَاقةِ، ولبَاقَةِ كَفاءةٍ جَريئتَين، عَن صَفاءِ ونقاءِ صَفحةِ مِرآةٍ عَاكسةٍ، لخُلاصَةِ سِربٍ مِن التَجارِب النَاضجة، مُستقاة أريحِيةً، مِن صُلبَ مَواقف حَيوية مُعاشة جَمّة؛ ومُختارة بلطافةِ عُصارةِ فِكرٍ ألمعِي مُجرَّب؛ ومُزدانة بغَربلَةٍ واسعةٍ لمُعامَلاتٍ اجتماعيةٍ مَشهودَةٍ كَثِيرةٍ؛ ليُصاغ عطاء غَلّة مَحصولِها أَصَالةً، بمَهارةٍ وحِكمةٍ، وتُواجَه بتأنٍ واتّزانٍ، في إطارِ عِبارةٍ خَاطِفةٍ، أَو إهدءٍ في دِيباجةٍ مِن عِباراتٍ جَاذِبةٍ؛ تلفتُ انتباه السامِع؛ وتثِير ذَائقةَ حّاضِر مِزاجِ حَفيظتِه المُتوقّدة أحيانًا؛ وتُذكّره لَحظةً أُخرى، بلاحِقةٍ سَويةِ انتهاجِ سُلوكٍ قَوِيم، يَصُونه افتراضًا، مِن شَرٍّ قادِمٍ مِن مَصِيرِ كَبوةِ الوقُوعِ الشائنِ، في لُجّةِ أحضَانِ شَفا مُنزلقِ المَحضُورِ؛ ويُجنّبه احترازًا، - بسهمِ ساحِق - في وَقْع مُنحدَرِ أوّل سَقطةِ الانجرافِ الساحِب، في قَعرِ غَيابة مُنزلقِ هَبابِ هَاوِيةِ الرّذِيلة المُردِية…!
ولَعلّهُ مِن نَافِلةِ القولِ المُفيدِ، أنَّ مُجتمَعَ الأباءِ، ومِن قَبلهم مَحفَل جَمع الأجدادِ، قد بَرعُوا وأَجَادُوا - نَثرًا ونَشرًا - ورُبّما أَسرفُوا في سَلاسَة استِخدام الأمثالِ الشعبية، في سَدِيد موَاقِعها الساخنة؛ لتَعزِيز وتَبرِير شَتّى مَواقِف، ومُعامَلات حَياتِهم اليومِية؛ وهُنالك، أخصّ بالذكر، قاطِني الساحِل الشرقي للمملكة العربية السعودية الأمَاجِد، وبالتحدِيد في مَسقط رأسي، منطقةِ القطيفِ، ومَاجَاورَها… وببساطَةٍ طَلِقةٍ مُيَسّرةٍ، ليس هُناك حَاجزٌ، أو حَدٌ في أنْ يَهتدِي الباحثُ المُستقصِي للسّببَ الرئيس، في سُهُولةِ شُيوعِ وذُيوعِ استخدام الأمثالِ الشعبيةِ بين جُمعةِ الآباء والأجداد الأكارِم هو: قَوامُ بَساطَة سَجايَاهم؛ ولطافةُ طَبائعِهم؛ وسَماحَةُ أمزجتِهم؛ وأريحِيةُ أنساق أُمُور حَياتِهم اليومية، دُون تكلّفٍ، أو تصنّعٍ، أو تزلّفٍ؛ وعلى تاجِ رأسِها: طَبعُ حُسن النية؛ وشَفافِيةُ القَول والفِعل؛ ودَمَاثةُ طِيبِ الخُلُق؛ وصِدقُ الحدِيث؛ وشَهامةُ النفس؛ وسَمَاحةُ نُبل التعامُل الصادِق بحَضرة الآخرين؛ وخُلوّ ناصَع سِيرتهم النضِرة؛ ونَقاء مَسِيرةِ مَندوحَةِ حَياتِهم الحاضِرة آنذاك، مِن كَدَر أكداسِ المُثيرات، ومِثلها مِن عَكِر أصناف الضُغُوطَات المعِيشِية المَقِيتة؛ وأترابهما الند، مِن ظاهر المُنغّصاتِ الاجتماعية المَعِيبة؛ وبَراءتِهم المُتناقَلة الصّرْف، مِن أنماطِ الهِنات المُتفشّية؛ وبُعدِهم المشهود أصَالةً، عَن وَخْزِ حَسَك السعْدَان، وطَعنِ أشواك ناتئ التعقِيدات المُتنامِية… كُلّ مَواكِب تلك السّمات الفُضلى؛ ومَوائِد فيض المَحاسِن المُثلى - تحت سُدّةِ سَقفٍ واحدٍ - شَحذَت عَفَوِيًا، رَغبهتم الذاتِية؛ وعَزّزت تِلقائيًا، لُعابَ ذَائقتِهم الفِكرِية، في طَوعِ قَبضةِ أساليب تَرصِيع، وفُنون تنمِيق جُلّ أنماطِ أحَاديثِهم الودّية، بمَعِيةِ زَخَم شآبيبٍ مُنهمِرةٍ مُتناثِرةٍ، مِن وُبُلٍ مُسدّدَةٍ مُوثّقَةٍ، مِن نِتاجٍ وافرٍ مِن أكداس رَشِيد مُعطياتِ قَوائم الأمثال الشعبية؛ لتَتناسَب مَغازِيها التربوية، بانسِجامٍ رَائقٍ؛ وتَتوافَق مَرامِيها المَوجّهة بوِئامٍ فائقٍ، مَع ”طُرفَة سَمَاحة المَقام، وأريحية بَلاغَة المَقال“ …!
وفِي جَوفِ حَافِظةِ مَخزُون ذاكِرتي المُتواضِعة، تَبرُز ضُمَيْمَةٌ يَانعةٌ مِن فَيضٍ مُتواضعٍ، مِن رَائق نَبضٍ مِن فَوجِ الأمثال التربوية الذائعة، التي سَادَت أصداؤها المِدوّية، في أوسَاط مُجتمعِ الآباء الأماجد؛ ورَاجَت أنفاسُها البِكر، بين ظُهراني سِيَر الأجداد الأجلّاء القدر رَدَحًا؛ والتي لَابُدّ لِي مِن مُبادأة الإشادَة الضافية، بنقاء رَسمِ نَصّها، والتعرِيجِ على نَزرٍ يسيرٍ على بُطونِ قَوائمها، مَا استطعت إلى ذلك سَبِيلًا؛ وأنّى خَطَرَ بريق طَيفُها اللحظِي الخاطِف انتزاعًا، بناصيةِ ذِهنِي؛ وعَنَّت بَوادِر طَلّة سَحنتِها الوضِيئة، ابتداءً، بسَنام مُخيّلتي؛ لاستِيفاءِ أسَاسِيات قَوائم أركانِ رِقَاع دِيباجةِ الخاطرة؛ ومُبادرَة السعي الحثِيث المُيسّرِ؛ ومُبادأَة نثر بعض ترانيمها المُرخّمَة، أمام يقظةِ ذِهنِ القارئ الكريم إلى مَحطّ بيتِ القصيد…!
وفي مَخزُون طَيّات ”أرشِيف“ الأمثال الشعبية المُوثّقة، يَجدُر بي هُنا، إلى أَنْ أشِيد وأشِير إلى واحدٍ مِن أَشهرِ الكتبِ الرئيسةِ المؤلّفةِ، التي تَضمّ مَجموعةً مُحقّقةً مِن صَيدٍ وافِر مِن مَحفوظَاتِ الأمثالِ المُتداولةِ، في رُقعةِ الساحل الشرقي للمملكة العربية السعودية، لمؤلّفة الأستاذ القدير: عبدالله بن حسن بن منصور آل عبدالمحسن... ولعلي - في وَضَحِ بَيان سُطُور، نشرِ ونثرِ، هذه الخاطرة المُتواضِعة، أذكُر وأتذكّر بعضًا مِن الأمثال التربوية، التي سَادت ردحًا وقْتئذٍ… «إذا سَوّيت خِير تِمّه» * يُضرب هذا المثل الشائع للثناء والتشجيع المُوجّه للشخص الذي يقوم بفعلٍ حَسَنٍ، أو أداءِ عملٍ ذَاتيٍ في عُموم مَناحِي وُجُوه الخير المُيسّرَة؛ ويُحسِن بفاعِله أنْ لَا يَتوقّف عَن إِتمام وإِكمال ذلك الفعل الخيري، مَهمَا كلّفهُ الأمرُ، وخَذلتهُ المَشقّةُ؛ ولِأنّ فِعلَ الخير مَحمودٌ إتيانه، ومَأجورٌ صَاحِبه، ودَليلنا في آي الذكر الحكيم: «مَن جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا…».* وثانِي تلك الأمثال التربوية: «أَ كْبَر مِنّك بَيِوم، أعْلَم مِنُّكْ بسَنَة».* يُضرب هذا المثل المُتأدّب عَادةً، لتقدير واحترام مَقامِ مَن يَكبِرنا سِنًا، والمَاثِل أمامنا؛ بحِنكةِ وحِكمةِ تجارِبه الرصِينة في خِضمّ مُعترَكِ الحياة، والاستماعِ إليها؛ والإستفادةِ مٍنها، أثناء مَعرِض الحديث، وفي وَسَط فُسحة المجالِس، فَلَا يجِب مُقاطعته، أو تجاهله، جُملَة وتَفصِيلًا… وفي صَمِيم هذا الصّدد يرشِدنا نبينا الكريم، عليه وآله وصَحبه، أفضل الصلاة وأتم التسليم: «أَنْزِلُوا النّاس مَنَازِلَهُمْ» * أما المَثلُ الثالثُ المُختار: «أُصْرُف مَا فِي الجَيب، يَأتِيكْ مَا فِي الغِيُب».* يُشجّع طرحٌ هذا المثل في حِينه، قَائِلُه وسَامِعُه، على انتهاج سِمتا الكرمِ والإنفاقِ السخِيتَين؛ وعدم تكرِيس عَكسِهما: البٌخل والشّح في دَاخلةِ أعماق النفس… وهُنالك تتجلّى شَهامَةُ قول الإمام الحّسَن بن عَلي، ، والمَعرُوف ”بكريم آل البيت“: «مَنْ جادَ سادَ، ومَنْ بَخِلَ رَذُل. وإِنَّ أَجْوَد النّاسِ مَن لَا يَرْجُوهُ».*
ولَا يَفُوتني، قَبل الخِتام، أن أُشِيد بحِكمةِ ورَصانةِ المثلِ التربوي السائد في طُول وعَرض الساحل الشرقي، لدُولِ الخليج العربي برمّتها: «يَا مَاشِي في دَرْبِ الزّلَقْ، لَا تِأمَن الطِّيْحَة» … وهو صُوتٌ مُنقذٌ قادِمٌ مُن أبواق التحذِير؛ ومُنطلِقٌ مِن مَنابِر التوبِيخ، للإيقاظِ سُباتِ شِدّة التمادِي الأَحمَق؛ والتنبيه مِن غَفلَة الانغِماس الأَخرَق، في مَحطّ مُستَنقعِ الرذيلة؛ حَيثُ إِنّ نتيجة تلك الأفعَال الشائنة، مَردّها إلى الهلاكِ المُحقّقِ؛ وعَاقِبتها الفَشلِ الذرِيع، ونَتيجتها: ذِهابِ الريحِ المُحترمَة، وانهزام غلبة النصرِ على شَهوَة هَوَى النفس؛ والعَجزِ المُخزِي عَن مَحْوِ أثر هَبّات رَينِ زَيغِهِا الجائر.