مذكرات ممرضة
نورٌ سَافِرٌ بين أحضاني
رأيتها تبكي، تحاول أن تخاطبه، تطرح مراسيم الوقار خلف تلك الجدران الزجاجية وهي تطلّ على غرفة الأطفال الخدّج، أرهقتني مشاعرها الحبلى بالحزن على طفلها الذي كانت تنتظره منذ خمس سنوات.
كنتُ الممرضة المناوبة في تلك الليلة فوعدتُها خلف الجدران بأنني سوف أعتني به جيدا، فنحن قليلو الإيمان أمام فلذات أكبادنا، أعرف ذلك جيدا لذلك كنتُ بجانبه أرقبه بشدة، ياله من ضيف جميل! كانت أمّه تناديه أسامة وقد توارت دموعها على استحياء خوفا عليه أما أنا كنتُ أعدّه نورًا سَافِرا بين أحضاني.
منذ ربع قرن وأنا أعمل في هذا المشفى وشعور الأمومة لايفارقني بحالاته المتعددة المضحكة، والمبكية، السعيدة والحزينة.
كان الجميع ينعتني بالمربية الطبيبة لشدة اهتمامي بأطفالي الخدّج، وكم لامست السعادة قلبي عندما كان أطفالي ينتصرون على ضعفهم وتمردهم على الألم وخروجهم للحياة.
انتصف الليل وأنا بجانبهم أتأمّلهم طفلًا تلو الآخر، ذلك السّحر الذي ينفذ إلى قلبي عند حواري مع ملائكة الله في أرضه وفي ضوء نورها السافر رأيت أسامة يتغير لون جسده حتى أصبح يميل للأزرق، وبسرعة شديدة طلبتُ الطبيب المناوب مع فنيّ الأشعة، لقد شخّصا حالته التصاقا في الرئة لكنني فجأة شرّعتُ في إيقاف التحضيرات لعلاج الرئة ورحت ُ أصرخ إنه القلب يا دكتور، نظرت إلى أخصائي الأشعة الذي أكّد كلامي ومن فوره قام رئيس قسم حديثي الولادة بإسعاف قلبه الصغير في رحلة قصيرة كان عنوانها: جاري البحث عن أمل، عن ضيف جديد يُنير حياة والديه.
بعد أسبوع عانق أسامة حريته المقيدة تحت أجهزة التنفس الاصطناعي وخرج مع والديه ليواجه الحياة ضيفًا جديدًا، يغمره حضن والدته بسيل من العطف والحنان.
ودّعته وأنا أهزأ بأحداث تلك الليلة التي هزمها طفلٌ أراد أن يُسعد قلب أمه وهاهو قد فعلها.