بين الحداثة الأدبية والمواقف الإنسانية في رواية ”عيون الثعالب“
هذه رواية اجتماعية، ولهذا يبدو من المفيد التذكير ببعض الأحداث التاريخية المهمة التي شكلت المرحلة التي ولد فيها النص. نحن نتحدث عن الثمانيات من القرن العشرين، وهو عقد العجائب والمشاكل، ففيه سقط الشاه وانتصرت الثورة الإيرانية، وفيه اشتعلت الحرب العراقية الإيرانية التي دامت ثماني سنوات، والحرب الأفغانية الروسية، والإعلان رسمياً عن ولادة الصحوة الإسلامية في المؤتمر الإسلامي بمكة، وفي بدايته وهبتنا الطفرة النفطية الأولى خيرات لا حساب لها. هذه الطفرة التي حجمت المعارضة السياسية وأخرجتها من الساحة بعد أن سحبت البساط من تحت أقدامها، ولم يعد هناك ما يسمى ب ”المناخ السياسي“ الذي يبرر وجود هذه الحركات السياسية بكافة أشكالها وتوجهاتها العقائدية وخصوصاً بعد سقوط جدار برلين في نوفمبر 1989م وانتهاء الحرب الباردة بانتصار المعسكر الغربي بقيادة أمريكا، ومن ثم سيادة القطب الواحد على البشرية، هذه المرحلة أيضاً تميزت بإتاحة الفرصة بشكل كامل للتيارات السياسية الدينية لتتسيد المشهد الاجتماعي والديني والسياسي في الوطن العربي وصولاً إلى مرحلة ما سمي ب ”الربيع العربي“.
وبعد ضمور الحركات السياسية في الثمانينات تحول الكثير من المحسوبين على هذه التيارات السياسية إلى الفعل الثقافي العام في الأندية الأدبية وجمعيات الثقافة والفنون والإشراف على الصفحات الثقافية المؤثرة في الصحف والمجلات..الخ، ولكن بروح تميزت في أغلبها بالانتهازية والشللية الإيدلوجية. وهذه الرواية تدور أحداثها لتسرد أفكاراً وتصورات وممارسات عينة من هؤلاء المثقفين الموصوفين ب الحداثيين في تلك المرحلة.
التحليل:
البوصلة عندي هي أن الحداثة موقف تجاه الإنسان على كافة الصعد الثقافية والإقتصادية والإجتماعية والسياسية، ومقياس صحة هذه الحداثة هو مدى اقترابها أو ابتعادها عن قضية الإنسان، فكلما اقترب هذا الموقف للتعبيرعن المطالبة بتلبية حقوق وحاجات الإنسان كلما كان أكثر حداثة، وكلما ابتعد عن مصلحة هذا الإنسان صار أقل حداثة، بغض النظر عن أي زمن ولدت فيه. على سبيل المثال: عمر بن عبدالعزيز «القرن الهجري الأول» أكثر حداثة فيما يخص السياسة من كثير من سياسيي العالم المعاصر، فهو قد أعاد الشورى وعاقب الفاسدين من الولاة والمسئولين..الخ.
تتركب أقطاب هذه الرواية من ثلاثة محاور: أسرة، وثلة من المثقفين الحداثيين، وتوجد السلطة الدينية متمثلة في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
في الأسرة، الجدة «لطيفة» تربي حفيداتها وبينهن مريم على القيم والعادات المتوارثة للمجتمع، ولكن مريم تضع هدفها التعرف على أحد قادة الحداثيين المميزين ويدعى ”علي“ وهو يتمنع عليها لأنه مقتنع بحياة التعدد النسائي والعلاقات المختلفة ولا يعتقد بالحياة الزوجية.
تستعين مريم بأعدائه، أي الهيئة، وترتب موعداً يقوم فيه أعضاء الهيئة بالقبض عليهما متلبسين في علاقة غير شرعية في شقة المذكور، تنتشر الفضيحة ويفرض على الحداثي الزواج منها، وهي تخسر علاقتها مع أسرتها، وحين يرفض علي الإنجاب ويحتاط لذلك بكل ما في يده «يتابع تناولها لحبوب منع الحمل، ويستخدم الواقي في علاقته الجنسية معها» تقوم مريم بأخذ حيواناته المنوية من العازل وتحقن نفسها به، وتفرض حملها عليه، وتقول له بأنها تعلمت ذلك من أحد الأفلام، ولكن يبقى الرجل كارهاً لها.
أجواء الرواية تدور أغلبها حول حياة الشباب المثقفين، الذين يعتبرون أنفسهم ممثلين للحداثة، وبالتحديد الحداثة الأدبية، وتحديداً أكثر الحداثة الشعرية، وأكثر من هذا قصيدة النثر، وكانت هناك لقاءات خاصة تجمع هؤلاء الشعراء والقاصين والنقاد والمشرفين على الملاحق الأدبية الأسبوعية وغيرها وكذلك وجود المغنيين يتحدثون عن فضائل قصيدة النثر في مقابل القصيدة التقليدية أو قصيدة التفعيلة، وحداثتهم الإجتماعية صورها النص بالإجتماعات المختلطة على كأس الخمر والتدخين والعلاقات الجنسية وكل ما يتبعها من غيرة ومكائدة نسائية ومصائد رجالية لجر الراغبات في الظهور والشهرة إلى الأرائك الدافئة، رواية يختلط فيها الغرور بالتمرد. وللتقريب فقط، فهذه لقطة تخص علي وهو يتحدث مع منى، يستشهد بأغنية عيسى بن علي ”.. وأكمل كل شيء ينقص وأعض البرطم التحتي..“ ص 156 وهذه الثلة في صراع وتصادم دائم مع رجال الهيئة على مستوى فردي وجماعي، أحد السلفيين كتب كتاباً وضع فيه أسماء من يراهم حداثيين وحداثيات وتم توزيعه في كل مكان، وقام الأديب محمد العلي بالرد عليه بعدة حلقات نشرت في أحد الجرائد الكويتية في حينها.
هذا باختصار عن موضوع الرواية، ودعوني الآن أسجل بعض الملاحظات الفنية التي استوقفتني خلال قراءتي:
أولاً: متعة القراءة، لم تعد القراءة عبارة عن قراءة الكلمات والجمل والانتقال من صفحة لأخرى ومحاولة تخيل المشاهد.. اليوم صارت متعة القراءة مختلفة تماماً، قد نختلف أو نتفق في تفسيرنا لهذه المتعة، وبعيداً عن تقديم رأي بالاتفاق أو الاختلاف دعوني أصف الحالة التي أقصدها. حين أقرأ قصة أو رواية، وأرى الشخصية تترنم بمقطع من أغنية من أي مكان في الكون وبأي لغة كانت.. انتقل إلى اليوتيوب وبلمسة زر أستمع إلى الأغنية. شخصية تلقي قصيدة لشاعر مشهور أو مغمور، أو تشير إلى فيلم قديم أو حديث..الخ من التقنيات التي يستخدمها الكاتب لنسج بناء روايته، يستطيع القاريء أن يستحضرها ويستمتع بها.. وهي أدوات أو تقنيات توسع من أفق التلقي وتأخذه إلى أقصى مداها، قد يقول قائل بأن قراءة بعض أبيات الأغنية أو القصيدة أو الفيلم دون العودة إلى الإستمتاع بالنص الأصلي تعطي المتلقي الفرصة للتخيل وتفتح أفقه إلى إبداع ذاتي.
قد يكون هذا صحيحاً ولكن الإستماع إلى الأغنية أو القصيدة أو مشاهدة الفيلم سوف تساعد المتلقي على توسعة خياله والانتقال إلى مساحات أبعد وأعمق وأكثر تنوعاً وجمالا تنعكس على رؤيته وتأويله النص وتعمق من تفاعله معه.
ثانياً: هذا النص استخدم تقنية الفلاش باك: أغلبها كان متعلقاً بالجدة وتأثيرها النفسي والإجتماعي على مريم، وهذه التقنية مهمة جداً في السرد الحديث، نجد مثل هذه الحالة على ص 135.
ثالثاً: القصة والرواية والقصيدة هي نصوص أدبية، والأدب تشكل العاطفة أحد العناصر المهمة في بنيته، ولكن لو سألنا أنفسنا: أيهم أسرع وأسهل للانصباب والتسرب في ذهن وعقل وعاطفة المتلقي؟
بالتأكيد هي القصيدة المغناة، وحين تتقاطع تفاصيل أغنية ما مع موقف من المواقف التي نمر بها في حياتنا ونشعر وكأنها تتحدث عنا فنتعلق بها، نسمعها في الغرفة والسيارة والصالة، بمفردنا ومع الأصدقاء، بدل المرة عشر مرات، ولهذا فإن الكاتب يمكنه الإستفادة من الأغنية والقصيدة في بناء نصه..
قفزت هذه الملاحظة أمامي وأنا أقرأ ما قالته منى وهي تحاول انتشال مريم من محنتها مع علي فتذكرها بأغنية ”إنف إز إنف“، وكثير من الأغاني التي جاءت في هذا النص سواء لطلال مداح أو محمد عبده وعبدالمجيد عبدالله حين تأتي في نفس السياق.
رابعاً: كيف يستثمر الكاتب أقوى ما لديه من إمكانيات في الكتابة، وهذا ذكاء من الكاتب، من الواضح بأن اللغة الشعرية متميزة هنا. والكاتبة تستغل هذه الميزة حين تقتنص لحظة مناسبة في سياق السرد لدغم مقطع جميل هنا وهناك، ولكن حين تتفحصه تجد بأنه في بعض الأحيان مجرد تمطيط للنص، وربما لم يكن هناك داع له.
مثال على ذلك الحديث حين طلب علي من مريم قص شعرها بعد أن استعرضت جماله وجمال جسدها على ”البست“ في أحد مراقص القاهرة لكي تغيضه، ص 147+ ومثال آخر جاء على الصفحة 264 حين تخيلت مريم بأن علي يقبل نادية، دخلت في مقطع تقول فيه: ”كنت وحدي وعناقيد من غضب وألم تتدلى أمامي ملتهبة وحارة ومليئة بشوك الأسئلة والتكهنات، أشعر بقلبي يجر على شوك ملتهب..“ واستمر المقطع وهو يدوزن كلمتي الشوك والعناقيد.
خامساً: الأسرة تشكل الركيزة الأساس في مجتمعنا وتشكل ”الجدة“ شخصية محورية استثنائية تعكس قيم الأسرة التقليدية في هذا النص ولكنها أيضا تحمل روح الحداثة بمعناها الإنساني والأخلاقي، ما قيمة أي حداثة إذا لم تخدم الإنسان؟ في المقابل لدينا ”علي“ وهو شخصية تمثل الحداثة ”المتجاوزة“ وهو شخصية محورية في النص استحوذت على أغلب أحداث وحوارات النص لا يرى في العلاقة الزوجية ما يستحق العناء، وهو يؤمن بحريته الشخصية والتعددية النسائية والشرب والكتابة الإبداعية «كما يقول»، بل أننا في نهاية النص نعرف بأنه شاذ جنسياً.
حين أقارن بين حداثية ”علي“ والجدة لطيفة، سوف أختار الجدة بكل فخر واعتزاز. لأنها بالنسبة لي تمثل الأصالة والحداثة. هذه التي تربي بحب غير مشروط، هذه التي لا تتخلى عمن تحب وهي في أصعب الظروف وأقساها على أي إنسان، حين تذهب إلى مركز الهيئة لكي تكفل حفيدتها وحبيبتها الصغيرة التي تخلى عنها الجميع بما في ذلك والدها، هذه الجدة التي تتحدى الجميع للدفاع عمن تحب. هذه تشكل الحداثة الإنسانية، رغم انها لم تقرأ لفولتير ولا لصلاح عبدالصبور ولم تسمع لمادونا أو طلال مداح، إلا أنها تحمل تلك الروح الإنسانية المتجاوزة التي تمثل عمق الحداثة الإنسانية البسيطة والعفوية التي يمكن البناء عليها.
سادساً: المرجعية الثقافية للمؤلف أو للشخصيات تشكل نقطة مهمة من فهم النص، على سبيل المثال حين نقرأ بأن مريم تتابع بشغف حلقات الدكتور مصطفى محمود «النور والإيمان». هل هذا الشغف يشكل جزء من ثقافة ورؤية مريم للحياة أم لا، وكيف أنعكس هذا الشغف على سلوكها وعلاقاتها التي تخبطت في علاقات مضرة لها ولاسرتها؟
سابعاً: الرواية فيها تكرار كثير عن سلوكيات وصفات علي وغيره من الشلة الحداثية، أعتقد مثل هذا التكرار حتى لو تم بلغة جميلة قد أضر بالنص بشكل أو بآخر.
أخيراً، أعتقد بأن هذه الرواية كانت أقسى على الحداثيين من كتاب القرني لأنه صادر من شخصية مصنفة حداثية، يعني من أهل البيت وأدرى من غيرها بخفاياه وأسراره.