حديث البخاري فصيح
جاء في «صحيح البخاري» حديث «4518» أن عمران بن حصين قال: أُنْزِلَتْ آيةُ المتعة في كتاب الله، ففعلناها مع رسول الله ﷺ، ولم ينزل قرآنٌ يُحَرِّمُهُ، ولم يَنْهَ عنها، حتىٰ مات...
وهٰذا الحديث يتناول متعة الحج، ويبين أنها لم تنسخ؛ ولٰكن الكلام في متعة الحج والاستدلال عليها لفقهاء المسلمين.
وقد سمعت أحد أهل السنة والجماعة يستنكر لفظ الحديث، ويقول ما فحواه: إن الكلام هنا عن «متعة الحج»، وهي مؤنث، والصواب: ”... ولم ينزل قرآن يحرمها، ولم ينه عنها...“، وما ورد من قوله: ”يحرمه“ خطأ وتصحيف، والشيعة يريدون أن يتهموا الإمام البخاري بأنه فارسي لا يتقن العربية، ولا يميز بين المذكر والمؤنث!!
ولم يعتن المسلمون من أهل السنة والجماعة بكتاب - بعد كتاب الله تعالىٰ - عنايتهم بصحيح البخاري، وصحيح مسلم، وما أكثر من رواهما ونظر فيهما ممن يعد من علماء العربية! وقد طبعا طبعات محققة، ومن حققهما يعدون من الأفذاذ الذين يقل نظراؤهم في عصرنا هٰذا. نعم؛ هنالك بعض الأخطاء التي وقعت في ضبط صحيح البخاري وشكله اطلعت علىٰ شيء منها في طبعة عام 1272 هـ ، ولم يقع فيها خطأ في النصوص والحروف.
والإمام البخاري فارسي الأصل؛ ولٰكن كتبه تدل علىٰ إتقانه العربية، حاله حال غيره من العلماء والمحدثين في تلك العصور المتقدمة، ومنهم فارسي الأصل كسيبويه وأبي علي الفارسي، ومنهم رومي الأصل كأبي الفتح ابن جني.
والحكم علىٰ كتاب أو نص ولفظ بالخطأ والتصحيف والتحريف يحتاج إلىٰ علم واسع بالعربية، وهٰذا الطاعن في لفظ الحديث ليس من أهل العلم، وليس من أهل السليقة، فيتهم المحققين الكبار بالتصحيف.
إن لفظ الحديث عربي صحيح فصيح مسموع مقيس مطرد، ونحن اليوم نميل إلى الاستشهاد والاحتجاج بالحديث في العربية، وممن ذهب إلى الاحتجاج في علوم اللغة بالحديث - وإن كان ضعيفًا - الشيخ عبد العزيز ابن باز، في رسالة له اطلعت عليها، قبل ما يقرب من أربعين عامًا، وقد قرر - وهو الحق - أن من فوائد رواية الأحاديث الضعيفة الاحتجاج بها في أبواب العربية.
وقبل الحكم بالغلط والتصحيف وغيرهما، ينبغي أن يطلع المرء على الكتب المخطوطة والمحققة المطبوعة، ولا ينبغي التسرع بإبداء ما لم يتثبت منه من الرأي، وليس هٰذا من شأن المسلم، سنيًّا كان أو شيعيًّا؛ بل ليس من شأن العلماء والمحققين.
إن دراسة علوم العربية في العالم الإسلامي وغيره لفي ضعف شديد، إلا ما رحم الله تعالىٰ، وإننا لنسر ونفرح، إن وجدنا من يرفع الفاعل، وينصب المفعول، ويجر المضاف إليه، وما أكثر ما دعا العلماء إلى العناية باللغة وعلومها! وأنت ترىٰ هجوم من لا معرفة له من الملحدين وغيرهم على القرآن الكريم، وكتب الحديث، ويزعمون أنها تخالف المتفق عليه من النحو والتصريف والبلاغة وروح اللغة...
وقد زعم هٰذا المحاور - كما تقدم - أن الصواب أن يقال ويكتب: ”... ولم ينزل قرآنٌ يُحَرِّمُهَا، ولم يَنْهَ عنها...“، لا أن يقال ويكتب: ”... ولم ينزل قرآنٌ يُحَرِّمُهُ، ولم يَنْهَ عنها...“؛ لأن الضمير في «يحرمها» يعود - في زعمه - علىٰ «المتعة»، وهي مؤنث، وسياق «ولم ينه عنها» يؤكد هٰذا، ويعين عليه، ويعيِّنه.
والحق أن اللفظ الوارد في صحيح البخاري صحيح فصيح - كما تقدم - والضمير في «يحرمه» عائد علىٰ معنى الفعل من قوله: ”... ففعلناها...“، وهو مذكر، وهٰذا ما يعبر عنه ب «تصيد المعنىٰ» و«تصيد ما يعود عليه الضمير» أو «التصيد»، علىٰ أن «الآية» و«المتعة» ليسا مؤنثين حقيقيين؛ وإنما هما مؤنثان لفظيان مجازيان، وإن وجب إعادة الضمير عليهما مؤنثًا؛ ولٰكن الضمير لا يعود على اللفظ؛ بل على المعنى المتصيد، وهو: التمتع، أو الفعل، وتقدم شيء مما يشير إلىٰ لفظهما ومعناهما قرينة علىٰ جواز ذٰلك للمتكلم، وهو عربي محتج بقوله وكلامه - أعني عمران بن حصين - وإعادة الضمير على المعنى المتصيد حينًا وعلى اللفظ حينًا جائز سائغ لم يمنعه أحد قط.