مال الإمام... لِمَنْ؟: الخمس وكوارث الزّمان
لفت انتباهي موقف بعض المراجع الشيعية في إيران وغيرها في الزلازل التي حدثت في إيران وتركيا وسوريا مؤخرًا. وكتبت فيه مقالًا، وقبل الإنتهاء وصلتني رسالة عبر «الواتساب» من الشيخ محمد عباس دهيني الباحث الإسلامي من لبنان [1] وفيها مقال له بعنوان ”سهم الإمام لمساعدة كل الناس“ [2] ، وهو أيضًا موجود في مدونته في موقعه الشخصي على الشبكة العنكبوتية «Internet» [3] .
في البدء ارتأيت تعديل مقالي باقتباسات من مقال سماحته، أو التعامل مع مقاله كمصدر ومرجع، ولكني قررت لاحقًا عرضه كاملًا بتصرف بعد أخذ الإذن من سماحته، رغم وجوده للقراء في الفضاء العام، كما ذكرت، وذلك لموقع الشيخ الجليل في قلبي إحترامًا وتقديرًا، ولأنه قامة فكرية إصلاحية في الوسط الشيعي العام، كما أحببت أن أقدمه للذين لا يعرفونه من قراء ”جهات“، ومن خلالها للمهتمين بالخطاب الإصلاحي المعتدل، إضافة إلى أن ما سطره أسلس وأكثر تأثيرًا بحكم مناصبه واطلاعه على خبايا الأمور غير المعروفة لدى كثير من الناس.
في 2023/1/29م ضرب زلزال بقوة 5,9 شمال غرب إيران «قرب الحدود مع تركيا»، وهي منطقة شيعية وقلّما يوجد فيها غيرهم، مما أدى إلى وفاة ثلاثةِ أشخاص على الأقلّ، وجرح أكثر من ثمانِ مائة شخص[4] . وقد سارع جمعٌ من مراجع الدين الشيعة إلى التصريح بإجازة صرف ”الثلث“ من سهم الإمام في مساعدة المنكوبين، وبعضهم أجاز صرف نصف السهم وآخرون جوَّزوا صرف جميع السهم في هذا الحدث المؤلم[5] .
وبعد أيام حدث زلزالٌ مدمر في تركيا وسوريا، وكان ضحيّته المئات من القتلى والآلاف من الجرحى، وتشرَّدت العوائل، ودمار وخراب وضحايا تحت الأنقاض لا يعرف عددهم في فترة شتاء بارد قارص. ولا زالت تداعيات الزلزال ”المتوحش“ تتوالى في وسائل الإعلام والتواصل الإجتماعي حتى لحظات كتابة هذه السطور[6] .
سارعت بعض المرجعيات الدينية إلى إعلان الحزن والألم والتضامن مع الشعبين السوري والتركي، والوعد بالمساعدة، كما ”حثّوا الناس عليها“، ولكنْ دون ذكر سهم الإمام ، كمصدر لأموال المساعدة الموعودة من قبلهم أو من قبل الناس عليها.
وهنا مفارقات عجيبة بين الموقفين، قد يشمّ منها البعض طائفية مقيتة، ناهيك عن إثارة قضايا تتصل بمفهوم الخمس عند الشيعة وكيفية التصرف فيه من قبل المراجع والوكلاء.
أولًا: في الزلزال الإيراني، جاء الإذن بإعطاء المساعدة المالية من سهم الإمام «ثلثه، أو نصفه أو كامله».
اللافت في الأمر، أنَّ ”مال الإمام“ الذي يشمل الأنفال[7] ، كالنفط «البترول»، على سبيل المثال، هو في يد الدولة «السلطة الشرعية الحاكمة نيابة عن الإمام ، فعليه يمكنها الإنفاق منه، دون الحاجة إلى سهم الإمام ، الذي هو نصف الخمس «كما هو مبين في هامش رقم 2».
ثانيًّا: قد يسأل البعض، وهم محقون: كيف يتم التحقق من رضا الإمام بالتصرف في ماله بدعوى العلم برضاه؟ لكن هذا السؤال، رغم ارتباطه الوثيق بالقضية المذكورة، ليس هنا مكان طرحه ونقاشه.
ثالثًا: في الزلزال التركي، عدم ذكر سهم الإمام ، يثير أسئلة وشبهات. ولهذا يطرح سماحة الشيخ محمد عباس دهيني عدة أسئلة حول هذا الأمر:
«1» هل أن أموال ”مولى الخلائق... المنتظر لأقوامٍ وطوائف ومذاهب دون أخرى؟“،
«2» ويضيف متسائلًا، كيف سيحبّ هؤلاء الإمام ، ويتعلَّقون به، وهم يرَوْن أنه لا يصلهم منه شيءٌ، ويشهدون هذا التمييز بينهم وبين غيرهم مع أن الجميع منكوبون ومعوزون؟
«3» هل هذا من تجلِّيات مؤتمرات الوحدة الإسلامية وإفرازات بيانات التقريب بين المذاهب؟! فإذا ما أُصيب الشيعي رُفع وأُسند بمال الإمام ... وإذا نُكب السنّي فلا حظّ له في ”بيت المال“، علماً أن الجميع من رعاياه، وإن لم يذعنوا له أو يقبلوا بولايته.
«4» أهكذا كان أميرُ المؤمنين علي بن أبي طالب يتصرَّف، وهو الذي لم يقطع العطاء من بيت المال عن الخوارج الذين عدُّوه كافراً، وهو الذي أمر بالإنفاق على النصرانيّ الضعيف من بيت المال؟ أفتراه أو أحدَ أولاده «وكلُّهم معدنٌ واحد» لا يرضى بالإنفاق على فقيرٍ أو منكوب أو مشرَّد أو... لمجرد أنه سنّي لا يرى ولايته وإمامته؟!
ثم يواجه الشيخ دهيني المراجع عمومًا، والمراجع المعنيين في مقاله خصوصًا، بصراحته المعهودة وجرأته في قول الحق، فيقول لهم:
”قولوها صراحةً - وبلا تقيّةٍ ولا مداراة ولا مجاملات:
إنكم جميعاً تمنعون دفع الزكاة والخمس إلى المخالف «أي غير الشيعي الإمامي الاثني عشري»،
فعن أيّ وحدةٍ إسلامية أو تقريبٍ بين المذاهب ستتحدَّثون غداً؟ “
«5» ثم يعود ليسأل أترَوْنها هيِّنةً وعابرةً أن تصل لهؤلاء المنكوبين المساعدات المالية والعينية والصحّية والعمرانية باسم الإمام ، لا باسمٍ آخر، كائناً مَنْ كان!
«6» أترَوْن أنها ستكون حَدَثاً عادياً في حياة هؤلاء أم ستدفعهم للبحث عن هذا ”المحسن الكبير والعظيم، وهذا السيد العطوف والرؤوف، وهذا القائد العادل والشفيق، الذي يفيض حبّاً ورحمةً وإحساناً واهتماماً حتّى بمَنْ لا يعرفونه، بل رُبَما يخالفونه؟“
ويختم الشيخ الدهيني مطمئنًّا واثقًا: ”واللهِ، إنها أفضلُ دعوةٍ إنسانية صادقة إلى إمام الحقّ والهدى، إنها خيرٌ من ألف مؤتمرٍ وبيانٍ وخطابْ“ [8] .
قد يرى البعض أن مثل ما يقوله الشيخ دهيني هنا قد يستغل في تعميق الإصطفاف المذهبي والخلاف الطائفي وأن يُجيّر ضد الشيعة، قد يكون الأمر على العكس تمامًا. حتمًا سيقول الكثير أن الصرف المذكور ”مسألة شرعية“ بامتياز، ولا تخضع لأهواء هذا أو ذاك. هذا صحيح، ولكن الشيخ الدهيني لا يتكلم دون علم أو دراية، فهو مِن مدرسة العلامة الشيخ الدكتور حيدر حب الله «حفظه الله» وقد تسلم منه منصبيه في تحرير مجلتي نصوص معاصرة ومجلة الإجتهاد والتجديد. وهنا نقطتان تحتاج تأكيدًا، وإن كان مختصرًا، كي لا يطول المقال أكثر:
الأولى: يذهب فقاء الشيعة إلى أن التصرّف في الخمس في سهم الإمام، وعلى الأحوط وجوبًا في سهم السادة، في جهات خيرية أو إعانة محتاج يجب أن يكون بإذن المرجع أو الوكيل، وهذا ما تم تحصيله في الزلزال الإيراني، لذا هذا ليس محل نقاش الشيخ دهيني أو غيره، رغم أنه مرتبط بالنقطة الثانية.
الثانيَّة: أمّا في الحالة التركية والسورية، فهناك ”عائق شرعي“ في المسألة، فمن جملة الشروط والأوصاف في مستحقّي الخمس والزكاة في الفقه الشيعي الإماميّ إستنادًا إلى النصوص الحديثيّة، ”الإيمان“، بمعنى أن يكون المستحقّ مسلماً شيعيّاً اثنا عشريّاً، فلا يُعطى أبناء المذاهب الإسلاميّة الأخرى، فضلاً عن الكافر، من الخمس والزكاة شيئاً... ويمكن إعطاء أبناء المذاهب الأخرى من سهم المؤلَّفة قلوبهم في الزكاة، ومن سهم الإمام في الخمس، حسب المصلحة والمورد في ذلك[9] .
ولكن، بعد أن ناقش أدلة ”شرط الإيمان“ في صرف الخمس، خلص الشيخ حيدر حب الله: ”لم يقم أيّ دليل معتبر ومقنع على اشتراط الإيمان في مستحقّ الزكاة والخمس، بل في الخمس أوضح كما صار جليًّا، وأنّ النصوص المشترِطة الواردة كانت قد صدرت من أهل البيت بحكم ولايتهم على المال الزكوي والأموال العامّة، ومن ثمّ أمكن لمن له الولاية في عصر الغيبة تغيير هذا التعديل الزمني الولائي الصادر عنهم بما يراه مناسباً، سعةً وضيقاً“.
فعليه يرى الشيخ حب الله ”فالصحيح أن هذه الأموال تصرف في مصالح المسلمين، وعلى فقرائهم ومساكينهم عامة، دون أن يكون هناك مانعٌ من تقديم بعض الأوليات الزمنيّة هنا وهناك، تبعًا لما يراه المتولّون لشؤون هذه الأموال، وربما يطابق نظرهم الزمنيّ النظر الزمنيّ المستكن في نصوص المنع من إعطاء غير الإمامي، وقد يختلف تبعًا لإختلاف الظروف“ [10] .
بهذ النداء الإنساني وهذه الروح السامية، أختتم عرضي للمقال وأقول: أتمنى من كل قلبي أن تجد صراحة الشيخ محمد دهيني والتفاتاته على شكل أسئلة، بغض النظر عن كونها استفهامية أو استنكارية، آذان صاغية لنتخلص من غول الطائفية البغيضة، حتى وإن لم تكن حاضرة في بعض التصرفات والأقوال[11] ، على الجميع السعي إلى ما يوحد بين المسلمين وإلى ما فيه تعاطف مع الإنسان الآخر في أزماتهم بروح متسامية على العقائد «الدينية والمذهبية والأيدلوجيّة» والتشجنات النفسية وغيرها. ”العمل الصالح“ هو أفضل العبادات ووسائل التقرب إلى ربِّ العباد؛ من إماطة الأذى عن الطريق، إلى أكبر الأعمال مرورًا بمساعدة المكروب والمحتاج إلى العون، بأي وسيلة كانت أقلها بذل المال. هذا المال، بأي صيغة وصف، أو إضافة، هو ”مال الله“ والإنسان ما هو إلا مستخلف عليه وسيسأل كيف صرفه وأين صرفه.